باب الكفارة قبل الحنث وبعده

بطاقات دعوية

باب الكفارة قبل الحنث وبعده
باب الكفارة قبل الحنث وبعده
باب الكفارة قبل الحنث وبعده

 عن زهدم الجرمي قال: كنا عند أبي موسى [الأشعري 7/ 222]، وكان بيننا وبين هذا الحي (3) من جرم [ود، و 8/ 217] إخاء، ومعروف، قال: فقدم [إليه] طعام، قال: وقدم في طعامه لحم دجاج، قال: وفي القوم رجل [جالس 6/ 229] من بني تيم الله أحمر، كأنه مولى، [فدعاه إليه] قال: فلم يدن [من طعامه]، فقال له أبو موسى: ادن! فإني قد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل منه، قال: إني رأيته يأكل شيئا قذرته، فحلفت أن لا أطعمه أبدا، فقال: ادن أخبرك عن ذلك، (وفي رواية: عن يمينك):
أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رهط من الأشعريين أستحمله، وهو يقسم نعما من نعم الصدقة، -قال: أيوب: أحسبه- قال: [فوافقته] وهو غضبان، قال:
"والله لا أحملكم، وما عندي ما أحملكم [عليه 7/ 216] "، قال: فانطلقنا، [ثم لبثنا ما شاء الله 7/ 238]، فأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنهب [من] إبل، [فسأل عنا]، فقيل (وفي رواية: فقال): "أين هؤلاء الأشعريون، أين هؤلاء الأشعريون؟ "، فأتينا فأمر لنا بخمس (وفي رواية: بثلاثة 7/ 238) ذود غر الذرى، قال: فاندفعنا، فقلت لأصحابي: أتينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نستحمله، فحلف أن لا يحملنا، ثم أرسل إلينا فحملنا، نسي رسول

نَهى اللهُ تعالَى عِبادَه عن جَعْلِ الحَلِفِ به سُبحانَه حُجَّةً تَمنَعُهم مِن القيامِ بفِعلِ الخيْراتِ، واجتنابِ ما نَهى عنه، فإذا حلَفَ أحدُهم فليْس له الامتناعُ مِن فِعلِ الخيرِ، والتَّعلُّلُ باليَمينِ، بلْ عليه أنْ يَحنَثَ، ويُكفِّرَ عن يَمينِه، ويَأتيَ الذي هو خَيرٌ.
وفي هذا الحَديثِ يقول التابعيُّ زَهْدَمُ بنُ مُضَرِّب الجرميُّ: «كُنَّا عِنْد أبي موسى الأشْعَريِّ رضِيَ اللهُ عنه»، وكان بيْن الأشعَرِيِّينَ قومِ أبي موسى وبين بني جرمٍ إخاءٌ وَمَوَدَّةٌ، فَأُتِيَ أبو مُوسى رضِيَ اللهُ عنه بِطَعامٍ فيه لَحْمُ دَجاجٍ، وَفي القَومِ رَجُلٌ جالِسٌ أحْمَرُ اللَّونِ، كأنَّه من العبيدِ، فَلَم يقتَرِبْ مِن الطَّعامِ، وفي سُنَنِ التِّرمذيِّ عن زهدمٍ قال: «دخلْتُ على أبي موسى وهو يأكُلُ دجاجةً فقال: ادْنُ فكُلْ»، فبَيَّنَ أنَّ المُبهَمَ هو زَهدَم راوي الحديثِ، ولكنه هنا أبهم نَفْسَه، وقد كان زهدم ينتَسِبُ تارةً لبني جرْمٍ، وتارة لبني تَيمِ اللهِ، وجرمٌ قبيلةٌ مِن قُضاعةَ يُنسَبونَ إلى جرْمِ بنِ زَبَّانَ بنِ عِمرانَ بنِ الحافِ بنِ قضاعةَ، وتَيمُ اللهِ بَطنٌ مِن بني كَلبٍ، وهم قَبيلةٌ مِن قُضاعةَ أيضًا يُنسَبون إلى تَيمِ اللهِ بنِ رُفَيْدَة.
ثم أخبره أبو موسى رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه رأى رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَأكُلُ مِنه، فأخبر الرَّجُلُ أبا مُوسى رضِيَ اللهُ عنه -مُعتَذِرًا عَن كَونِه لَم يَقرَبْ منِ الأكْلِ- أنه رأى جِنْسَ الدَّجاجِ يَأكُلُ شَيئًا قَذِرًا، فكَرِهَتْه نَفْسُه، فَحَلَف ألَّا يأكُلَ الدَّجاجَ، وَكَأنَّه ظَنَّ أنَّ القَذارةَ أكْثَرُ ما يأكُلُه الدَّجاجُ بِحَيثُ صارَ مِن الجَلَّالةِ، فَبَيَّن له أبو مُوسى أنَّه لَيْسَ كَذَلك، وقال له: اقتَرِبْ أُخبِرْك وأُحدِّثْك -أراد بهذا الحديثِ أن يُراجِعَه في يمينِه-، فذكر أبو موسى رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه جاء إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في جماعةٍ مِن الأشْعَريِّينَ يَطلُبون مِنه إِبِلًا ليركَبوها في سَفَرِهم، فوجدوه يَقسِمُ نَعَمًا -والنَّعَمُ: بهيمةُ الأنعامِ؛ من الإبِلِ والبَقَرِ والغَنَمِ- مِن نَعَمِ الصَّدَقةِ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم غَضْبانَ، فَحَلَفَ ألَّا يُعطِيَهم، فَقالَ: «ما عِنْدي ما أحْمِلُكم عليه»، ثُمَّ جِيء إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعد ذلك بِنَهْب إِبِلٍ، أي: بغَنيمةٍ فيها إبلٌ، فسأل صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أيْنَ الأشعَريُّونَ» وذلك ليُعطِيَهم ما يَركَبون من هذه الإبِلِ بعد أن أقسَمَ ألَّا يُعطِيَهم.
قالَ أبو مُوسى رضِيَ اللهُ عنه: فَأعْطانا عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خَمْسَ ذَوْدٍ، وَهوَ ما بيْنَ الثَّلاثةِ إلى العَشَرةِ، مِن الإِبِلِ «غُرَّ الذُّرى» جَمْع أغَرَّ، والأغَرُّ: الأبيَض، والذُّرى: جَمْع ذُرْوةٍ، وَذُرْوةُ كُلِّ شَيْءٍ: أعْلاهُ، والمُرادُ هُنا أسْنِمةُ الإبِلِ، فانطَلَقوا، فَقال أبو موسى رَضِيَ اللهُ عنه لأصْحابه: «نَسِيَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمينَه الَّتي حَلَفَ لا يَحمِلُنا، فَوالله لَئِن تَغَفَّلنا رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَمينَه» أي: أخَذْنا منه وهو غافِلٌ عمَّا حلف عليه «لا نُفلِحُ أبَدًا»، وهذا كان ظنُّ أبي موسى رَضِيَ اللهُ عنه تورُّعًا من أن يوقِعَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في حَرَجِ الإثمِ، وطَلَب من أصحابِه أن يَرجِعوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليُذَكِّروه بما حلف.
فَرَجَعوا للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُبَيِّنون لَه الأمْرَ، فَقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إنَّ اللهَ هو حَمَلَكم» بأن أرسل هذا الغنيمةَ بقَدَرِه؛ فهو الذي قَدَّرَ حَمْلَكم عليها، ولم أحمِلْكم عليها. ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنِّي واللهِ -إنْ شاءَ اللهُ- لا أحْلِفُ على يَمينٍ فَأرى غَيرَها خَيْرًا مِنها إلَّا أتَيتُ الَّذي هو خَيرٌ» مِن الَّذي حَلَفتُ عليه «وتَحلَّلْتُها» بالكفَّارةِ، وقد وَرَدَتْ كفَّارةُ اليَمينِ في قَولِ اللهِ عزَّ وجلَّ: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].
وفي الحَديثِ: دُخولُ المَرْءِ على صَديقِه في حالِ أكلِه، واسْتِدْناءُ صاحِبِ الطَّعامِ الدَّاخِلِ وَعَرضُه الطَّعامَ عليه وَلَو كانَ قَليلًا؛ لأنَّ اجْتِماعَ الجَماعةِ على الطَّعامِ سَبَبٌ للبَرَكةِ فيهِ.
وفيه: الترغيبُ في مُخالَفةِ اليَمينِ إذا رأَى غَيْرَها خَيرًا منها.

الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه، والله لئن تغفلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمينه لا نفلح أبدا، ارجعوا بنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلنذكره يمينه، فرجعنا [إليه]، فقلنا: يا رسول الله! [إنا] أتيناك نستحملك، فحلفت أن لا تحملنا، [وما عندك ما تحملنا]، ثم حملتنا، فظننا، أو فعرفنا أنك نسيت يمينك، قال:
" [أجل، ولكن 5/ 122] انطلقوا [ما أنا حملتكم]، فإنما حملكم الله، إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها؛ إلا أتيت الذي هو خير، وتحللتها (وفي رواية: وكفرت عن يميني) ".
(وفي طريق أخرى عنه قال: أرسلني أصحابي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله الحملان لهم (4)، إذ هم معه في جيش العسرة، وهي غزوة تبوك، فقلت: يا نبي الله! إن أصحابي أرسلوني إليك لتحملهم، فقال:
"والله لا أحملكم على شيء، [ما عندي ما أحملكم 7/ 238] "، ووافقته وهو غضبان ولا أشعر، ورجعت حزينا من منع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن مخافة أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - وجد في نفسه علي، فرجعت إلى أصحابي، فأخبرتهم الذي قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلم ألبث إلا سويعة إذ سمعت بلالا ينادي: أي عبد الله بن قيس! فأجبته، فقال: أجب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدعوك، فلما أتيته قال:
"جذ هذين القرينين (5)، وهذين القرينين (6) -لستة أبعرة ابتاعهن حينئذ من سعد- فانطلق بهن إلى أصحابك، فقل: إن الله، أو قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحملكم علي هؤلاء فاركبوهن"، فانطلقت إليهم بهن، فقلت:
إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يحملكم على هؤلاء، ولكني والله لا أدعكم حتى ينطلق معي بعضكم إلى من سمع مقالة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تظنوا أني حدثتكم شيئا لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا لي: إنك عندنا لمصدق، ولنفعلن ما أحببت، فانطلق أبو موسى بنفر منهم حتى أتوا الذين سمعوا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منعه إياهم، ثم إعطاءهم بعد، فحدثوهم بمثل ما حدثهم به أبو موسى 5/ 129).