باب النهي عن مبادرة الإمام بالانصراف من الصلاة
سنن النسائي
أخبرنا علي بن حجر، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن المختار ابن فلفل، عن أنس بن مالك، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: «إني إمامكم، فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود، ولا بالقيام ولا بالانصراف، فإني أراكم من أمامي ومن خلفي»، ثم قال: «والذي نفسي بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا» قلنا: ما رأيت يا رسول الله؟ قال: «رأيت الجنة والنار»
مُتابعةُ الإمامِ في الصَّلاةِ لازِمةٌ، وقد حَثَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على مُتابعةِ الإمامِ في كلِّ أفعالِه وحركاتِه وهَيئاتِه، ونَهى عن سَبقِ الإمامِ في الصَّلاةِ
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أنسُ بنُ مالكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ صلَّى بهم ذاتَ يومٍ، فلمَّا انتهى من صلاتِه، التَفتَ إلى المأمومين وجَعَلهم في قُبالةَ وَجهِه، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أيُّها النَّاسُ» مُناديًا الحاضِرينَ لجَذبِ أسماعِ مَن حولَه، والمرادُ بالنَّاسِ: كلُّ مَن كان يُصلِّي خَلفَه مِنَ المأمومين، «إنِّي إمامُكم»، أيِ: المأمومُ تابعٌ بحَركاتِه في الصَّلاةِ لفِعلِ وحَرَكاتِ إمامِه، «فلا تَسْبِقوني بالرُّكوعِ ولا بالسُّجودِ، ولا بالقيامِ ولا بالانصرافِ»، والمعنى: لا يكونُ رُكوعُكم قَبلَ رُكوعِ الإمامِ، ولا يكونُ سُجودُكم قبلَ سُجودِ الإمامِ، وهكذا في باقي أحوالِ الصَّلاةِ، والمُرادُ بالانصرافِ في الصَّلاةِ: التَّسليمُ؛ «فإنِّي أراكم أمامي ومِن خَلْفي»، أيِ: انتَبِهوا لأحوالِ صَلاتِكم؛ فإنِّي أراكم من خَلفِ ظَهري بمِثل ما أراكم بوجهي، ومَعنى رُؤيتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لمَن خَلفَه: أنَّ اللهَ تَعالَى خَلَقَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إدراكًا من وَرائه، وهذا من خَصائصِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وإبصارُه إدراكٌ حقيقيٌّ انخرَقَت له فيه العادةُ، وقدِ انخرَقَتِ العادةُ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأكثَرَ من هذا، وليس يَمنَعُ من هذا عَقلٌ ولا شَرعٌ، بل وَرَدَ الشَّرعُ بظاهِرِه؛ فوجَبَ الإيمانُ به. ويَحتمِلُ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَراهُم بما يُوحَى إليه من أفعالِهم وهَيئاتِهم في الصَّلاةِ؛ لأنَّ الرُّؤيةَ قد يُعبَّرُ بها عن العِلمِ والاعتِقادِ
ثُمَّ قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «والَّذي نفْسُ مُحمَّدٍ بيَدِه»، أي: مُقسِمًا باللهِ عزَّ وجلَّ؛ وذلك لأنَّ اللهَ هو الذي يَملِكُ الأنفُسَ، وكثيرًا ما كان يُقسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بهذا القَسمِ، فيُقسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لأصحابِه أنَّه لو كُشِفَ لهم عمَّا يُكشَفُ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، لقَلَّ ضَحِكُهم وزادَ بُكاؤُهم؛ لهَولِ ما سيَطَّلِعون عليه ويَرَونه، فسألَه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم عمَّا رآه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «رأيْتُ الجنَّةَ والنَّارَ»، أي: لو رأيتُم ما رأيتُه في الجنَّةِ والنَّارِ مِنَ النَّعيمِ للمُطيعين في الجنَّةِ، ومِنَ العذابِ للعاصين في النَّارِ، لأصابَكمُ الهَمُّ والغَمُّ حيثُ تَرجُون وتَخافون؛ تَرجُون الجنَّةَ وما فيها، وتَخافون النَّارَ وما فيها، ولا أحدَ يَستطيعُ أن يَعرِفَ مَصيرَه، وبذلك تَترُكون الضَّحِكَ في الدُّنيا إلَّا قليلًا، وتُلازِمون البُكاءَ كثيرًا
وفي الحديثِ: الحثُّ على الخشوعِ في الصَّلاةِ، والمحافظةِ على إتمامِ أركانِها
وفيه: أنَّه يَنبغي للإمامِ أن يُنبِّهَ النَّاسَ على ما يَتعلَّقُ بأحوالِ الصَّلاة، ولا سيَّما إن رأى منهم ما يُخالِفُ الأَولى
وفيه: بَيانُ مُعجِزةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ برُؤيتِه من خلفِه كما يرَى من أمامِه