باب تحزيب القرآن
حدثنا عباد بن موسى أخبرنا إسماعيل بن جعفر عن إسرائيل عن أبى إسحاق عن علقمة والأسود قالا أتى ابن مسعود رجل فقال إنى أقرأ المفصل فى ركعة. فقال أهذا كهذ الشعر ونثرا كنثر الدقل لكن النبى -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ النظائر السورتين فى ركعة الرحمن والنجم فى ركعة واقتربت والحاقة فى ركعة والطور والذاريات فى ركعة وإذا وقعت ون فى ركعة وسأل سائل والنازعات فى ركعة وويل للمطففين وعبس فى ركعة والمدثر والمزمل فى ركعة وهل أتى ولا أقسم بيوم القيامة فى ركعة. وعم يتساءلون والمرسلات فى ركعة والدخان وإذا الشمس كورت فى ركعة. قال أبو داود هذا تأليف ابن مسعود رحمه الله.
أمر الله سبحانه وتعالى بتدبر القرآن؛ قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} [ص: 29]، وقال عز من قائل: {أفلا يتدبرون القرآن} [النساء: 82]، وهذا هو المقصود من قراءته، لا مجرد سرد حروفه دون فهم أو تعقل
وفي هذا الحديث يخبر التابعي أبو وائل شقيق بن سلمة أن رجلا -وفي رواية: «من بني بجيلة»- يقال له: نهيك بن سنان جاء إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فقال: «يا أبا عبد الرحمن، كيف تقرأ هذا الحرف؟»، أي: كيف تقرأ هذه الآية في القرآن؟ «ألفا تجده أم ياء؟ {من ماء غير آسن}، أو (من ماء غير ياسن)»؟ والمعنى: هل الكلمة بحرف الألف أم بحرف الياء؟ والماء الآسن هو المتغير طعمه ولونه، والماء الياسن هو المنتن المتعفن ويصيب ببخاره من دخله، فسأله عبد الله رضي الله عنه: «وكل القرآن قد أحصيت غير هذا؟!»، أي: وهل حفظت كل القرآن وضبطت ألفاظه إلا تلك الآية وغير هذا اللفظ الذي تسأل عنه؟! كأنه يتعجب منه وينكر عليه، فأجابه نهيك بن سنان إجابة تدل على أنه يرى من نفسه أنه ضبط القرآن كله، فأخبره أنه يقرأ المفصل من القرآن في ركعة واحدة، وهذا إخبار عن كثرة حفظه وإتقانه، والمفصل هو صغار السور، قيل: يبدأ المفصل من سورة محمد، وقيل: سورة »ق»، حتى آخر القرآن الكريم، وسمي بذلك لكثرة الفصل بين سوره بسطر «بسم الله الرحمن الرحيم»، ولم يجبه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن سؤاله؛ لأنه فهم عنه أنه غير مسترشد، ولكنه قال له: »هذا كهذ الشعر؟!»، والهذ شدة الإسراع والإفراط في العجلة، أي: هل تقرأ القرآن مسرعا غير متدبر كأنك تقرأ شعرا؟! كأن ابن مسعود ينكر عليه قراءته المفصل في ركعة واحدة وعدم تدبره وتأمله في الآيات
ثم قال ابن مسعود رضي الله عنه: »إن أقواما يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم»، وهذا كناية عن عدم الفهم، أي: إن هناك أقواما يقرؤون القرآن فلا يتدبرون آياته ولا يتفكرون في معانيه، فلا تصل إلى قلوبهم بالتدبر والخشوع، ولا تصعد إلى السماء؛ فلا يكون لهم بها أجر ولا ثواب. والترقوة: هي العظم البارز أعلى الصدر من أول الكتف إلى أسفل العنق
ثم أخبره عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن القرآن إذا قرئ بتدبر وتأمل، فوعى القلب معانيه وأدرك مواعظه؛ نفع قارئه، وهذا هو المطلوب من المسلم والمراد من قراءة القرآن، ثم بين له أن الأحسن أجرا والأكثر ثوابا في الصلاة كثرة الركوع والسجود، وليس طول القراءة التي لا يتدبر فيها القارئ لمعاني الآيات
ثم قال له معلما: وإني لأعرف السور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بينها في ركعات صلاته وهي المسماة بالنظائر، وهي السور المتماثلة في المعاني أو المتقاربة في الطول أو القصر، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ سورتين منهما في كل ركعة
ثم قام ابن مسعود من المجلس ودخل داره، فدخل وراءه التابعي علقمة بن قيس؛ ليسأله عن تلك السور التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بينها، ثم خرج علقمة من عنده وقال للناس: قد أخبرني ابن مسعود رضي الله عنه بها
وفي رواية: أخبرهم علقمة أن النظائر »عشرون سورة من المفصل»، أي: عشرون سورة من صغار السور، على ترتيب عبد الله بن مسعود للمصحف؛ حيث اختلف ترتيب ابن مسعود عن ترتيب زيد بن ثابت، وقد ورد ذكر هذه السور عند أبي داود عن ابن مسعود رضي الله عنه، وهي: الرحمن والنجم في ركعة، والقمر والحاقة في ركعة، والطور والذاريات في ركعة، والواقعة والقلم في ركعة، والمعارج والنازعات في ركعة، و«ويل للمطففين» و«عبس» في ركعة، والمدثر والمزمل في ركعة، والإنسان والقيامة في ركعة، والنبأ والمرسلات في ركعة، والدخان والتكوير في ركعة. فإن قيل: الدخان ليست من المفصل، فكيف عدها من المفصل؟ فالجواب: أن فيه تجوزا، وقد جاء في رواية في الصحيحين: ثماني عشرة سورة من المفصل، وسورتين من آل (حم)
وفي الحديث: الحث على تدبر القرآن وعدم الإسراع في قراءته
وفيه: بيان مكانة وعلم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه