باب خروج الموحدين من النار 4
بطاقات دعوية
عن يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فإذا هو قد ذكر الجهنميين قال فقلت له يا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا الذي تحدثون والله يقول {إنك من تدخل النار فقد أخزيته} و {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} فما هذا الذي تقولون قال فقال أتقرأ القرآن قلت نعم قال فهل سمعت بمقام محمد عليه السلام يعني الذي يبعثه الله فيه قلت نعم قال فإنه مقام محمد صلى الله عليه وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك قال غير أنه (1) قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها قال يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم (2) قال فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس (3) فرجعنا قلنا ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد أو كما قال أبو نعيم
الجَنَّةُ هي دارُ النَّعيمِ المُقيمِ الذي أعدَّه اللهُ لعِبادِه المتَّقينَ المؤمِنينَ، ومَن رَأى هولَ المَحشَرِ والقيامةِ، ثُمَّ فازَ بالجَنَّةِ؛ فإنَّه يَعلَمُ مِقدارَ نِعمةِ اللهِ وفَضلِه عليه، فهو الكريمُ الرَّحيمُ يَتكرَّمُ على عِبادِه بأفضالِه ومَثوبتِه، ويَزيدُهم من نِعَمِه وكَرامتِه.
وفي هذا الحديثِ يَروي التَّابعيُّ يَزيدُ الفقيرُ أنَّه كانَ قد دخَلَ قلبَه وأعجَبَه رأيٌ من رأيِ الخوارجِ، وهُم مِنَ الفِرَقِ المُبتدِعةِ التي ابتُليَ بهِم أهلُ الإسلامِ؛ فهُم يُكفِّرونَ المُسلِمينَ ولا يَتورَّعونَ عن دِمائهم، مع أنَّهم يَجتهِدونَ في العِبادةِ والصَّلاةِ والصِّيامِ! ومن أقوالِهم: إنَّ أصحابَ الكبائرِ يُخلَّدونَ في النَّارِ، ولا يَخرُجُونَ منها مع أنَّهم مُوحِّدونَ باللهِ عزَّ وجلَّ، وهو مَذهَبٌ باطِلٌ، مُخالِفٌ لنُصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ، فخرَج يَزيدُ الفقيرُ هو وجماعةٌ كَثيرةٌ من مَوطِنِهمُ الكُوفةِ ليَحُجُّوا، ثمَّ يَخرُجوا على النَّاسِ مُظهِرينَ مَذهبَ الخوارجِ وداعينَ إليه، وفي طريقِهم إلى مكَّةَ للحَجِّ مَرُّوا بالمدينةِ النَّبويَّةِ، ووجَدوا جابرَ بنَ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما جالسًا مُستنِدًا إلى أُسطُوانةٍ وعَمودٍ، وهو يُحدِّثُ النَّاسَ بأحاديثَ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فذكَرَ الجَهَنَّميِّين، وهُم أصحابُ جَهنَّمَ الذين دخَلوا فيها ابتداءً بسببِ ذُنوبِهم، ثُمَّ يَخرجونَ منها بعدَ العقوبةِ، فيُدخِلُهمُ اللهُ الجَنَّةَ برحمتِه، وهُم أقَلُّ أهلِ الجَنَّةِ مَنزِلةً، فسَألَ يَزيدُ الفقيرُ جابرًا رَضيَ اللهُ عنه مُتعجِّبًا ومُستنكِرًا لحديثِه: ما هذا الَّذي تُحدِّثون النَّاسَ به؟ واللهُ يقولُ: {إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192]، أي أذلَلتَه، وأهنتَه، ويقولُ أيضًا: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} [السجدة: 20]؟! فكأنَّه ظَهَرَ له تَعارُضٌ بين القُرآنِ وبين ما يَرويه جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه، يُريدُ أنَّ الآيتَينِ تَدلَّانِ على أنَّ من أُدخِلَ النَّارَ لا يَخرُجُ منها أبدًا، وأرادَ يَزيدُ بذلك الاحتجاجَ على جابرٍ رَضيَ اللهُ عنه في إثباتِه الشَّفاعةَ.
فسَألَه جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه: «أتْقَرَأُ القرآنَ؟» فأجابَ يَزيدُ: نَعم، فسَألَه: «فهلْ سَمِعتَ بمَقامِ محمَّدٍ عليه السَّلامُ يَعني الَّذي يَبعَثُه اللهُ فيه-؟» حيثُ وعَدَه به -ووَعدُه الحقُّ- في قولِه تَعالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]، أي: يَكونُ لك مَقامُ الشَّفاعةِ العُظمى الذي يَحمَدُه الأوَّلونَ والآخِرُونَ، فأجاب يَزيدُ: نَعَم، فأخبَرَه جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّ الشَّفاعةَ يومَ القيامةِ هي مَقامُ مُحمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المحمودُ، الَّذي يُخرِجُ اللهُ به بسَبَبِ شَفاعتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تِلك مَن شاءَ أن يُخرِجَه منَ النَّارِ، ثُمَّ وَصَفَ جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه وَضْعَ الصِّراطِ، وهو الجِسرُ الذي يُوضَعُ على مَتنِ جَهنَّمَ، ووَصَفَ مُرورَ النَّاسِ عليه، ثُمَّ قالَ يَزيدُ: «وأخافُ ألَّا أكونَ أحفَظُ» ما قالَه جابرٌ رَضيَ اللهُ عنه في وصفِ الصِّراطِ، ومُرورِ النَّاسِ عليه، لكنَّه يَحفَظُ بعضَ ما تَضمَّنَه، كما أشارَ إليه بقَولِه: غيرَ أنَّ جابرًا قد زعَم أنَّ قومًا يَخرُجونَ مِنَ النَّارِ بعدَ أن يَكونوا فيها، فيَخرُجون كأنَّهم عيدانُ السَّماسمِ -جمعُ سِمسمٍ-، ويُقصَدُ به كلُّ نَبتٍ ضَعيفٍ، ومَعناه: أنَّ عيدانَه تَراها إذا قُلِعت وتُرِكَت في الشَّمسِ ليُؤخَذَ حَبُّها دِقاقًا سُودًا ضَعيفةً كأنَّها مُحترِقةٌ، فشَبَّه بها هؤلاءِ، فيَدخُلون بأمرِ اللهِ نهرًا من أنهارِ الجَنَّةِ فيَغتسِلون فيه، فيَخرُجونَ كأنَّهم «القراطيسُ» جمعُ قِرطاسِ، وهو الصَّحيفةُ والوَرقةُ التي يُكتَبُ فيها، شبَّهَهم بالقراطيسِ؛ لشدَّةِ بياضِهم بعدَ اغتسالِهم وزوالِ ما كان عليهم منَ السَّوادِ والضَّعفِ؛ وهذا لأجلِ تَحضيرِهم لدُخولِ الجَنَّةِ، كما ثَبَتَ في الرِّواياتِ.
ويَحكي يزيدُ أنَّهم لم يَظُنُّوا بجابرٍ رَضيَ اللهُ عنه الكذِبَ، بَل قالوا لبعضِهم: «وَيْحَكُم!» وهي كلمةُ تَرحُّمٍ وتَوجُّعٍ، تُقالُ لمَن وقَعَ في هَلَكةٍ لا يَستحِقُّها، وقد تُقالُ بمَعنى المدحِ والتَّعجُّبِ، فرجَعَ هو ومَن معه من حَجِّهم، ولم يَتعرَّضوا لرأيِ الخوارجِ، بل كفُّوا عنه، وتابوا إلى اللهِ منه، إلَّا رجُلًا منهم؛ فإنَّه لم يُوافِقهم في الرُّجوعِ عن رأيِ الخوارجِ والانكفافِ عنه.
وفي الحديثِ: ثُبوتُ الشَّفاعةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يومَ القيامةِ.
وفيه: ثُبوتُ الصِّراطِ.
وفيه: دُخولُ عُصاةِ المُؤمنينَ الجَنَّةَ بعدَ انقضاءِ عُقوبتِهم في النَّارِ.