باب ذكر البعث1
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن مسهر، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة
عن أبي هريرة، قال: قال رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى موسى على البشر، فرفع رجل من الأنصار يده فلطمه، قال: تقول هذا وفينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: قال الله عز وجل: {ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} [الزمر: 68] فأكون أول من رفع رأسه، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي، أو كان ممن استثنى الله عز وجل، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب" (1)
تَفضيلُ بَعضِ الأنبياءِ على بَعضٍ أمرٌ خاصٌّ باللهِ سُبحانه فقطْ، وهو وَحْدَه مَن يَملِكُ هذا الأمرَ، وليس لِبشَرٍ أنْ يُفاضِلَ بيْن هؤلاء الأنبياءِ دونَ عِلمٍ أو تَبَعًا لِهوًى، ولتَكُنِ المُفاضَلةُ بما نصَّ عليه اللهُ عزَّ وجلَّ وبيَّنَته أقوالُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، كما في قولِه تعالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253].
وفي هذا الحديثِ يَحكي أبو هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه استَبَّ رَجُلٌ مِن المُسلِمين، ورَجُلٌ مِن اليَهودِ، والسَّبُّ: الشَّتْمُ والتَّنابُذُ بالكلامِ وغيرِه. فقالَ المُسلِمُ: والَّذي «اصْطَفى» -أي: اخْتارَ وفضَّل- مُحمَّدًا على العالَمينَ، فقالَ اليَهوديُّ: والَّذي اصْطفى مُوسى على العالَمين، فضَرَبَ المسلمُ اليَهوديَّ على وَجْهِه؛ عُقوبةً لَه على كَذِبِه عِندَه؛ لِمَا فَهِمَه مِن عُمومِ لَفظِ «العالَمين»، فيَدخُلُ فيه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وقَد تَقرَّر عِندَ المُسلِمِ أنَّ مُحَمَّدًا أفْضَلُ الرُّسلِ صلَّى اللهُ عليهم وسلَّم.
فذَهَبَ اليَهوديُّ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبَرَه بما حَدَثَ، فدَعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الرَّجلَ المُسلمَ، فسَألَه عَن ذلِك، فأخبَرَه وأكَّدَ ما قالَه اليَهوديُّ، فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لا تُخَيِّروني، أي: لا تُفَضِّلوني على مُوسى تَخييرًا يُؤدِّي إلى تَنقيصِه، أو تَخييرًا يُفضي بكُم إلى الخُصومةِ، وقيل: إنَّ كُرْهَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للمُفاضلةِ بيْن الأنبياءِ هو تَواضُعٌ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحتَّى لا يكونَ هناك نِزاعٌ في ذلكَ؛ فتكونَ مَدْخلًا للشَّيطانِ. ثمَّ بيَّنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فضْلَ مُوسى عليه السَّلامُ ومَكانتَه، وذكَرَ أنَّ النَّاسَ يُغْمى علَيهم مِن الفَزَعِ يَومَ القِيامةِ، ومنهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك عندَ النَّفخِ في الصُّورِ أوَّلَ مرَّةٍ، فإذا نُفِخَ في الصُّورِ المرَّةَ الثَّانيةَ -وهي نَفْخةُ البَعثِ والإحياءِ للمَوتى- يكونُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أوَّلَ مَن يُبعَثَ، قال: «فإذا مُوسى باطِشٌ جانِبَ العَرشِ»، أي: قابِضٌ علَيه بيَدِه، فلا أَدري كانَ فيمَن صَعِقَ فَأَفاقَ قَبْلي، فيَكونُ ذلِك له فَضيلةً ظاهِرةً، أو كانَ ممَّن استَثْنى اللهُ في قولِه تعالَى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، فلَم يَصعَقْ؛ فهي فَضيلةً أيضًا.
وعَرْشُ الرَّحمنِ هو أعظَمُ المَخلوقاتِ، له قَوائمُ، وله حَمَلةٌ مِن الملائكةِ يَحمِلونه، اسْتَوى عليه الرَّحمنُ جلَّ في عُلاهُ، قال تعالَى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، واستِواؤُه جلَّ وعَلا مِن صِفاتِه الفِعليَّةِ التي تَتعلَّقُ بمَشيئتِه، ولا يَعلَمُ الكَيفيَّةَ إلَّا اللهُ، وكلُّ ما خَطَرَ بالعقْلِ فاللهُ مُنزَّهٌ عنه.
وفي الحديثِ: فَضْلُ مُوسى عليه السَّلامُ.