باب ذكر الشفاعة3
سنن ابن ماجه
حدثنا نصر بن علي، وإسحاق بن إبراهيم بن حبيب قالا: حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أهل النار، الذين هم أهلها، فلا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم نار بذنوبهم أو بخطاياهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فحما أذن لهم في الشفاعة، فجيء بهم ضبائر ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة. فقيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل". قال: فقال رجل من القوم: كأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان في البادية (1)
التَّفاضُل بيْن الأنبياءِ أو تَفضيلُ بعضِهم على بعضٍ أمرٌ خاصٌّ بالله سُبحانه، وهو وَحْدَه مَن يَملِكُ هذا الأمرَ، وليْس لِبشَرٍ أنْ يُفاضِلَ بيْن هؤلاء الأنبياءِ إلَّا بما فضَّل اللهُ به بعضَهم على بعضٍ، وبما أخبَرَ به النَّبيُّ صلى اله عليه وسلم.
وفي هذا الحديثِ يُبيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه سيِّدُ وَلدِ آدمَ يَومَ القيامةِ، وفي حَديثِ التِّرمذيِّ أنَّه قال بعْدَ ذلكَ: «ولا فَخْرَ»، وهذا مِن بابِ ذِكرِ كَرامةِ النَّبيِّ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على ربِّه بلا فَخْرٍ منه ولا تَكبُّرٍ، بلْ هو في أعْلى دَرَجاتِ التَّواضُعِ. والسَّيِّدُ: هُو الَّذي يَفوقُ قَومَه في الخيرِ. وقيل: هوَ الَّذي يُفزَعُ إليه في النَّوائبِ والشَّدائدِ، فيَقومُ بأُمورِهم، ويَتحمَّلُ مَكارِهَهم ويَدفعُها عَنهم، والتَّقييدُ بيَومِ القيامَةِ مَع أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سيِّدُهم في الدُّنيا؛ لأنَّه ربَّما نازَعَه في السِّيادةِ مُلوكُ الكُفَّارِ وزُعماءُ المشركينَ، وأمَّا الآخرَةُ فإنَّه يَظْهَرُ يومَ القيامةِ سُؤدُدُه بِلا مُنازعٍ ولا مُعاندٍ؛ وذلك لِما له مِن مَقامِ الشَّفاعةِ العُظمى الَّتي يَتقدَّمُ بها على سائرِ الأنبياءِ، كما ثَبَت في رِوايةِ الصَّحيحينِ.
وهذا القولُ منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَتنافى مع الحديثِ الَّذي أخْرَجَه أبو داودَ: أنَّ وَفْدَ بني عامرٍ لمَّا قالوا له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أنتَ سيِّدُنا»، فأجابَهُم: «السَّيِّدُ اللهُ»، فمَعناه: الَّذي له السِّيادةُ على الحقيقَةِ هو اللهُ عزَّ وجلَّ، وقدْ قال لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك لأنَّهم كانوا في هذا الوقتِ حَديثِي عَهدٍ بجاهليَّةٍ، وربَّما قَصَدوا بالسِّيادةِ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعضَ المعاني المشترَكةِ في حَقِّ اللهِ تعالَى؛ فرَدَّها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للهِ عزَّ وجلَّ.
وأخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه أوَّلُ مَن يَنشَقُّ عنه القَبرُ، فيكونُ أَوَّلَ مَن يُبعَثُ مِن قَبرِه ويَحضُرُ في المحشَرِ، وقدْ أخرَجَ البخاريُّ ومُسلمٌ ما يدُلُّ على أنَّ سيِّدَنا مُوسى عليه السَّلامُ قدْ يكونُ أفاقَ قبْلَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وذلك في قَولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «النَّاسُ يَصْعَقون يوْمَ القيامةِ، فأكونُ أوَّلُ مَن يُفِيقُ، فإذا أنا بمُوسى آخِذٌ بقائمةٍ مِن قَوائمِ العرشِ، فلا أدْري أفاقَ قَبْلي أمْ جُوزِيَ بصَعقةِ الطُّورِ»، فيَكونُ ذلِك له فَضيلةً ظاهِرةً، أو كانَ ممَّن استَثْنى اللهُ في قولِه تعالَى: {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68]، فلَم يَصعَقْ؛ فهي فَضيلةً أيضًا.
وقدْ أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا أنَّه أَوَّلُ شافعٍ في ذلكَ المحضَرِ أمامَ اللهِ سُبحانَه وتَعالَى يوْمَ القيامةِ، وذَكَر صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيضًا أنَّه «أوَّلُ مُشفَّعٍ»؛ لأنَّه قدْ يَشفَعُ اثنانِ، فيُشفَّعُ الثَّاني منهما قبْلَ الأوَّلِ، أي: لا يَشفَعُ ولا يُؤذَنُ بالشَّفاعةِ لِأحدٍ قبْلَه ولا معه، ولا يقومُ بالشَّفاعةِ قبْلَه ولا معه أحدٌ.
وفي الحديثِ: التَّحدُّثُ بنِعمةِ اللهِ على الإنسانِ بلا تَكبُّرٍ.
وفيه: بَيانُ أنَّه يَنْبغي على الأُمَّةِ أنْ يَعرِفوا عُلوَّ قدْرِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ويَعتقِدوه، ويَعمَلوا بمُقتضاهُ، ويُوقِّروه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما تَقْتَضي مَرتبتُه، كما أمَرَهم اللهُ تعالَى.
وفيه: دَليلٌ على تَفضيلِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الخَلقِ كلِّهم.