باب ركوب البدن
سنن ابن ماجه
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا وكيع، عن سفيان الثوري، عن أبي الزناد، عن الأعرج
عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يسوق بدنة، فقال: "اركبها" قال: إنها بدنة! قال: "اركبها، ويحك"
قوله : ( باب ركوب البدن لقوله تعالى : والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها - إلى قوله تعالى - وبشر المحسنين هكذا في رواية أبي ذر ، وأبي الوقت ، وساق في رواية كريمة الآيتين ، واستدل المصنف لجواز ركوب البدن بعموم قوله تعالى لكم فيها خير وأشار إلى قول إبراهيم النخعي " لكم فيها خير : من شاء ركب ومن شاء حلب " أخرجه ابن أبي حاتم وغيره عنه بإسناد جيد . والبدن بسكون الدال في قراءة الجمهور ، وقرأ الأعرج وهي رواية عن عاصم بضمها وأصلها من الإبل وألحقت بها البقر شرعا .
قوله : ( قال مجاهد سميت البدن لبدنها ) هو بفتح الموحدة والمهملة للأكثر وبضمها وسكون الدال لبعضهم وفي رواية الكشميهني لبدانتها أي سمنها وكذا أخرجه عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : إنما سميت البدن من قبل السمانة .
[ ص: 627 ] قوله : ( والقانع السائل ، والمعتر الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير ) أي يطيف بها متعرضا لها ، وهذا التعليق أخرجه أيضا عبد بن حميد من طريق عثمان بن الأسود قلت لمجاهد : ما القانع ؟ قال جارك الذي ينتظر ما دخل بيتك ، والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه ولا يسألك شيئا . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق سفيان بن عيينة ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : القانع هو الطامع . وقال مرة : هو السائل . ومن طريق الثوري ، عن فرات عن سعيد بن جبير : المعتر الذي يعتريك يزورك ولا يسألك . ومن طريق ابن جريج عن مجاهد : المعتر الذي يعتر بالبدن من غني أو فقير . وقال الخليل في العين : القنوع المتذلل للمسألة ، قنع إليه : مال وخضع ، وهو السائل . والمعتر الذي يعترض ولا يسأل . ويقال قنع بكسر النون إذا رضي ، وقنع بفتحها إذا سأل . وقرأ الحسن " المعتري " وهو بمعنى المعتر .
قوله : ( وشعائر الله استعظام البدن واستحسانها ) أخرجه عبد بن حميد أيضا من طريق ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : ومن يعظم شعائر الله قال استعظام البدن واستحسانها واستسمانها . ورواه ابن أبي شيبة من وجه آخر عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، عن ابن عباس نحوه لكن فيه ابن أبي ليلى وهو سيئ الحفظ .
قوله : ( والعتيق عتقه من الجبابرة ) أخرج عبد بن حميد أيضا من طريق سفيان ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : إنما سمي العتيق لأنه أعتق من الجبابرة . وقد جاء هذا مرفوعا أخرجه البزار من حديث عبد الله بن الزبير .
قوله : ( ويقال وجبت سقطت إلى الأرض ومنه وجبت الشمس ) هو قول ابن عباس وأخرج ابن أبي حاتم من طريق مقسم عن ابن عباس قال : فإذا وجبت أي سقطت ، وكذا أخرجه الطبري من طريقين عن مجاهد .
قوله : ( عن الأعرج ) لم تختلف الرواة عن مالك ، عن أبي الزناد فيه ورواه ابن عيينة ، عن أبي الزناد فقال عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، أو عن أبي الزناد ، عن موسى بن أبي عثمان عن أبيه عن أبي هريرة أخرجه سعيد بن منصور عنه . وقد رواه الثوري ، عن أبي الزناد بالإسنادين مفرقا .
قوله : ( رأى رجلا ) لم أقف على اسمه بعد طول البحث .
قوله : ( يسوق بدنة ) كذا في معظم الأحاديث ووقع لمسلم من طريق بكير بن الأخنس ، عن أنس " مر ببدنة أو هدية " ولأبي عوانة من هذا الوجه " أو هدي " وهو مما يوضح أنه ليس المراد بالبدنة مجرد مدلولها اللغوي . ولمسلم من طريق المغيرة ، عن أبي الزناد " بينا رجل يسوق بدنة مقلدة " وكذا في طريق همام ، عن أبي هريرة وسيأتي للمصنف في : " باب تقليد البدن " أنها كانت مقلدة نعلا .
قوله : ( فقال اركبها ) زاد النسائي من طريق سعيد ، عن قتادة ، والجوزقي من طريق حميد ، عن ثابت كلاهما عن أنس " وقد جهده المشي " ولأبي يعلى من طريق الحسن ، عن أنس " حافيا " لكنها ضعيفة .
قوله : ( ويلك في الثانية أو في الثالثة ) وقع في رواية همام عند مسلم " ويلك اركبها ، ويلك اركبها " [ ص: 628 ] ولأحمد من رواية عبد الرحمن بن إسحاق ، والثوري كلاهما عن أبي الزناد ومن طريق عجلان ، عن أبي هريرة قال " اركبها ويحك . قال : إنها بدنة . قال : اركبها ويحك " زاد أبو يعلى من رواية الحسن " فركبها " وقد قلنا إنها ضعيفة لكن سيأتي للمصنف من طريق عكرمة ، عن أبي هريرة " فلقد رأيته راكبها يساير النبي صلى الله عليه وسلم والنعل في عنقها " وتبين بهذه الطرق أنه أطلق البدنة على الواحدة من الإبل المهداة إلى البيت الحرام ولو كان المراد مدلولها اللغوي لم يحصل الجواب بقوله إنها بدنة لأن كونها من الإبل معلوم فالظاهر أن الرجل ظن أنه خفي كونها هديا فلذلك قال إنها بدنة ، والحق أنه لم يخف ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم لكونها كانت مقلدة ولهذا قال له لما زاد في مراجعته " ويلك " واستدل به على جواز ركوب الهدي سواء كان واجبا أو متطوعا به ; لكونه صلى الله عليه وسلم لم يستفصل صاحب الهدي عن ذلك فدل على أن الحكم لا يختلف بذلك . وأصرح من هذا ما أخرجه أحمد من حديث علي : أنه سئل : هل يركب الرجل هديه ؟ فقال : لا بأس قد كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالرجال يمشون فيأمرهم يركبون هديه . أي هدي النبي صلى الله عليه وسلم ، إسناده صالح . وبالجواز مطلقا قال عروة بن الزبير ونسبه ابن المنذر ، لأحمد ، وإسحاق ، وبه قال أهل الظاهر وهو الذي جزم به النووي في : " الروضة " تبعا لأصله في الضحايا ونقله في : " شرح المهذب " عن القفال ، والماوردي ، ونقل فيه عن أبي حامد ، والبندنيجي وغيرهما تقييده بالحاجة ، وقال الروياني : تجويزه بغير حاجة يخالف النص ، وهو الذي حكاه الترمذي ، عن الشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأطلق ابن عبد البر كراهة ركوبها بغير حاجة عن الشافعي ، ومالك ، وأبي حنيفة وأكثر الفقهاء وقيده صاحب " الهداية " من الحنفية بالاضطرار إلى ذلك ، وهو المنقول عن الشعبي عند ابن أبي شيبة ولفظه : لا يركب الهدي إلا من لا يجد منه بدا . ولفظ الشافعي الذي نقله ابن المنذر وترجم له البيهقي : يركب إذا اضطر ركوبا غير فادح . وقال ابن العربي ، عن مالك : يركب للضرورة فإذا استراح نزل . ومقتضى من قيده بالضرورة أن من انتهت ضرورته لا يعود إلى ركوبها إلا من ضرورة أخرى ، والدليل على اعتبار هذه القيود الثلاثة - وهي الاضطرار والركوب بالمعروف وانتهاء الركوب بانتهاء الضرورة - ما رواه مسلم من حديث جابر مرفوعا بلفظ اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا فإن مفهومه أنه إذا وجد غيرها تركها ، وروى سعيد بن منصور من طريق إبراهيم النخعي قال : يركبها إذا أعيا قدر ما يستريح على ظهرها . وفي المسألة مذهب خامس وهو المنع مطلقا نقله ابن العربي ، عن أبي حنيفة وشنع عليه ، ولكن الذي نقله الطحاوي وغيره الجواز بقدر الحاجة إلا أنه قال : ومع ذلك يضمن ما نقص منها بركوبه . وضمان النقص وافق عليه الشافعية في الهدي الواجب كالنذر . ومذهب سادس وهو وجوب ذلك نقله ابن عبد البر عن بعض أهل الظاهر تمسكا بظاهر الأمر ولمخالفة ما كانوا عليه في الجاهلية من البحيرة والسائبة ورده بأن الذين ساقوا الهدي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كانوا كثيرا ولم يأمر أحدا منهم بذلك . انتهى . وفيه نظر لما تقدم من حديث علي وله شاهد مرسل عند سعيد بن منصور بإسناد صحيح رواه أبو داود في : " المراسيل " عن عطاء : كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالبدنة إذا احتاج إليها سيدها أن يحمل عليها ويركبها غير منهكها . قلت : ماذا ؟ قال : الراجل والمتيع اليسير فإن [ ص: 629 ] نتجت حمل عليها ولدها " [1] ولا يمتنع القول بوجوبه إذا تعين طريقا إلى إنقاذ مهجة إنسان من الهلاك . واختلف المجيزون هل يحمل عليها متاعه ؟ فمنعه مالك وأجازه الجمهور . وهل يحمل عليها غيره ؟ أجازه الجمهور أيضا على التفصيل المتقدم . ونقل عياض الإجماع على أنه لا يؤجرها . وقال الطحاوي في : " اختلاف العلماء " : قال أصحابنا والشافعي إن احتلب منها شيئا تصدق به ، فإن أكله تصدق بثمنه ويركب إذا احتاج فإن نقصه ذلك ضمن . وقال مالك : لا يشرب من لبنه فإن شرب لم يغرم . ولا يركب إلا عند الحاجة فإن ركب لم يغرم . وقال الثوري : لا يركب إلا إذا اضطر .
قوله : ( ويلك ) قال القرطبي : قالها له تأديبا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه ، وبهذا جزم ابن عبد البر ، وابن العربي وبالغ حتى قال : الويل لمن راجع في ذلك بعد هذا ، قال : ولولا أنه صلى الله عليه وسلم اشترط على ربه ما اشترط لهلك ذلك الرجل لا محالة . قال القرطبي : ويحتمل أن يكون فهم عنه أنه يترك ركوبها على عادة الجاهلية في السائبة وغيرها فزجره عن ذلك ، فعلى الحالتين هي إنشاء . ورجحه عياض وغيره قالوا : والأمر هنا وإن قلنا إنه للإرشاد لكنه استحق الذم بتوقفه على امتثال الأمر . والذي يظهر أنه ما ترك الامتثال عنادا ، ويحتمل أن يكون ظن أنه يلزمه غرم بركوبها أو إثم وأن الإذن الصادر له بركوبها إنما هو للشفقة عليه فتوقف فلما أغلظ له بادر إلى الامتثال . وقيل لأنه كان أشرف على هلكة من الجهد . وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة ، فالمعنى أشرفت على الهلكة فاركب فعلى هذا هي إخبار وقيل هي كلمة تدعم بها العرب كلامها ولا تقصد معناها كقوله لا أم لك ويقويه ما تقدم في بعض الروايات بلفظ : " ويحك " بدل ويلك ، قال الهروي : ويل يقال لمن وقع في هلكة يستحقها وويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها .
وفي الحديث تكرير الفتوى والندب إلى المبادرة إلى امتثال الأمر وزجر من لم يبادر إلى ذلك وتوبيخه وجواز مسايرة الكبار في السفر وأن الكبير إذا رأى مصلحة للصغير لا يأنف عن إرشاده إليها ، واستنبط منه المصنف جواز انتفاع الواقف بوقفه وهو موافق للجمهور في الأوقاف العامة أما الخاصة فالوقف على النفس لا يصح عند الشافعية ومن وافقهم كما سيأتي بيانه في مكانه إن شاء الله تعالى .