باب صب الخمر في الطريق
بطاقات دعوية
عن أنس رضي الله عنه: كنت ساقي القوم، (وفي طريق ثانية: كنت قائما على الحي أسقيهم عمومتي، وأنا أصغرهم 6/ 242)، (وفي طريق ثالثة: كنت أسقي أبا عبيدة، وأبا طلحة، وأبي بن كعب، [وأبا دجانة، وسهيل بن البيضاء 6/ 245])، في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ [هذا الذي يسمونه 5/ 189] الفضيخ [وهو [زهو (وفي طريق رابعة: خليط بسر) و] تمر [8/ 134]، (وفي طريق: رطب وبسر 6/ 249)، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مناديا ينادي:
"ألا إن الخمر قد حرمت". قال: فقال لي أبو طلحة: [اخرج فانظر ما هذا الصوت؟ قال: فخرجت، فقلت: هذا مناد ينادي: "ألا إن الخمر قد حرمت"، فقال لي: 5/ 190] اخرج فأهرقها (وفي الطريق الرابعة: قم إلى هذه الجرار فاكسرها، قال أنس: فقمت إلى مهراس لنا، فضربتها بأسفله حتى انكسرت. وفي رواية خامسة: قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس!)، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة، [قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها، بعد خبر الرجل]. فقال بعض القوم: قد قتل قوم (9)، وهي في بطونهم، فأنزل الله: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا} الآية
حَرَّمَ اللهُ عزَّ وجلَّ الخمرَ؛ لِمَا فيها مِن مَفاسدَ تَعودُ بالضَّررِ على العقلِ والمالِ، وبسَببِهَا يَرتكِبُ الإنسانُ الكثيرَ مِن الذُّنوبِ؛ لغيابِ عقلِه، والخمْرُ مِن التَّخميرِ، وهو التَّغطيةُ؛ سُمِّيتْ بذلك لأنَّها تُغطِّي العقْلَ، فتكونُ رَأسًا لوُقوعِ العبْدِ الشَّاربِ في المُوبِقاتِ.
وفي هذا الحديثِ يَحكي أَنَسٌ رضِيَ الله عنه: أنَّ الخمرَ التي «أُهْرِيقَتْ» -يعني: سالَتْ وصُبَّتْ- عندما نزل تحريمُ الخَمرِ؛ الفَضِيخُ، وهي المصنوعةُ من البُسْرِ، وهو ثَمَرُ النَّخلِ قبْلَ أنْ يَنضَجَ ويَصيرَ رَطْبًا.
ويُخبِرُ أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّه كان يَسْقي القومَ في بيْتِ أبي طَلْحَةَ الأنصاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، فنزَلَ تَحريمُ الخمرِ في الآياتِ التي في سُورةِ المائدةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [المائدة: 90، 92].
فأمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُناديًا، فنادى ليُعْلِمَ المسلِمين في المدينة أنَّ الخمْرَ قدْ حُرِّمَتْ، وكان ذلك عامَ الفتحِ سنةَ ثمانٍ مِنَ الهِجرةِ، فقال أبو طَلْحَةَ لأنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: اخرُجْ فانظُرْ ما هذا الصَّوتُ. فخرَجَ أنسٌ رَضِيَ اللهُ عنه وسمع الصَّوتَ، ثم عاد لأبي طلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه، فأخبره أنَّ مُناديًا ينادي: أَلَا إنَّ الخمرَ قدْ حُرِّمَتْ.
فأسرع أبو طَلْحَةَ في تنفيذِ الأمرِ، وأمر أنَسًا رَضِيَ اللهُ عنهما أن يُكفِئَ الآنيةَ التي بها الخمرُ، فذكر أَنَسٌ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ الخَمرَ سالت في سِكَك وطُرُق المدينةِ؛ من شِدَّةِ امتِثالِ النَّاسِ لأمرِ اللهِ سُبحانَه ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
فذكر بعضُ أصحابِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ بَعْضَهم قُتِلَ أو مات والخَمرُ في بُطونِهم ولمْ يَمُرَّ وقْتٌ طَويلٌ على شُربِهم لها، فأنْزَلَ اللهُ: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93]، أي: لَيْسَ على الذين آمَنوا إِثْمٌ فيما طَعِموا وشَرِبوا مِن الخمرِ قبْلَ تَحريمِها؛ فقد كان شُرْبُهم لها قبْلَ النَّهيِ عنها؛ ولذلك فإنَّهم لا يُؤاخَذونَ به؛ لأنَّ التَّحريمَ إنَّما يَلزَمُ بالنَّهيِ، وما كان قبْلَ النَّهيِ فالعَبدُ غَيرُ مُخاطَبٍ به.
وفي الحَديثِ: فَضلُ أبي طلحةَ والصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم؛ إذ استجابوا لأمْر اللهِ بسُرعةٍ ودونَ سُؤالٍ، وهذا هو الذي يَنبغي للمُسلمِ الحقِّ.
وفيه: بَيانُ رَحمةِ اللهِ بعِبادِه وأنَّه لا يُحاسِبُ على الفِعلِ قبْلَ إنزالِ الحُكمِ، وأنَّ مَن لم يَعلَمْ لا يُؤاخَذْ بجَهلِه فيما ليس مَعلومًا بالضَّرورةِ.