باب غزوة الحديبية، وقول الله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة} 3
بطاقات دعوية
عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - إلى السوق، فلحقت عمر امرأة شابة، فقالت: يا أمير المؤمنين! هلك زوجى وترك صبية صغارا، والله ما ينضجون كراعا (106)، ولا لهم زرع ولا ضرع، وخشيت أن تأكلهم الضبع، وأنا بنت خفاف بن إيماء الغفارى، وقد شهد أبى الحديبية مع النبي - صلى الله عليه وسلم -. فوقف معها عمر، ولم يمض، ثم قال: مرحبا بنسب قريب, ثم انصرف إلى بعير ظهير (107) كان مربوطا فى الدار، فحمل عليه غرارتين، ملأهما طعاما، وحمل بينهما نفقة وثيابا، ثم ناولها بخطامه، ثم قال: اقتاديه: فلن يفنى حتى يأتيكم الله بخير. فقال رجل: يا أمير المؤمنين! أكثرت لها. قال عمر: ثكلتك أمك؛ والله إنى لأرى أبا هذه وأخاها قد حاصرا حصنا زمانا، فافتتحاه، ثم أصبحنا نستفىء سهمانهما (108) فيه.
إكْرامُ أصْحابِ الفَضلِ والجَميلِ مِن مَحاسنِ الأخْلاقِ، خُصوصًا لو كان فَضلُ أولئك على عُمومِ المُسلِمينَ، ويَكونُ إكْرامُهم ببِرِّهم في حَياتِهم، وبِرِّ ذُرِّيَّتِهم وأحِبَّائِهم بعْدَ مَوتِهم.
وفي هذا الحَديثِ أكرَمَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه ابْنةَ الصَّحابيِّ خُفافِ بنِ إيماءٍ الغِفاريِّ رَضيَ اللهُ عنه؛ لفَضلِ أبيها ومَكانَتِه، فيُخبِرُ أسْلَمُ مَوْلى عُمَرَ بنِ الخطَّابِ أنَّه خرَج معَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه إلى السُّوقِ، فلحِقَتْ بعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه في الطَّريقِ امْرأةٌ شابَّةٌ، وذكَرَتْ له مَوتَ زَوجِها، وأنَّ لها صِبْيةً صِغارًا ما يُنضِجونَ كُراعًا، والكُراعُ: مُستَدَقُّ السَّاقِ، أو ما دونَ الرُّكْبةِ مِنَ السَّاقِ مِن الرِّجِل، ومِن حَدِّ الرُّسْغِ منَ اليَدِ، وقيلَ: الكُراعُ منَ الدَّوابِّ: هو ما تحْتَ الكَعبِ، ومنَ الإنْسانِ: ما تحْتَ الرُّكْبةِ، والمَعنى: أنَّهم لا يُحسِنونَ طَهيَ طَعامِهم، ولا إصْلاحَ ما يَأْكلونَ، وليس لهم زَرعٌ يَأْكلونَ منه، أو ماشيةٌ يَحلُبونَها، فيَشْرَبونَ مِن لَبَنِها، فهم فُقراءُ، وأنَّها تَخافُ عليهم أنْ تَأكُلَهمُ الضَّبُعُ، والضَّبُعُ هنا المُرادُ بها: السَّنةُ الشَّديدةُ المُجدِبةُ، وذكَرَتْ له أنَّها ابْنةُ الصَّحابيِّ خُفافِ بنِ إيماءٍ رَضيَ اللهُ عنه، وأنَّه شَهِدَ معَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الحُدَيْبيَةَ، والَّتي وقَع فيها الصُّلحُ مع قُرَيشٍ في السَّنةِ السَّادسةِ مِنَ الهِجْرةِ، وفيهم نزَلَ قولُ اللهِ عزَّ وجلَّ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18].
فلمَّا أخبَرَتْه بذلك وقَفَ عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه لها، ورحَّبَ بها، وقال: مَرحَبًا بنَسَبٍ قَريبٍ، أي: بنَسَبِ قُرَيشٍ؛ لقُربِ نسَبِ غِفارَ من قُرَيشٍ؛ لأنَّ كِنانةَ تَجمَعُهم، أو أرادَ بقَولِه: «بنَسَبٍ قَريبٍ» أنَّها انتسَبَتْ إلى شَخصٍ مَعروفٍ. ثمَّ انصرَفَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه إلى بَعيرٍ قَويِّ الظَّهرِ مُعَدٍّ للحَملِ، فوضَعَ عليه غِرارَتَيْنِ، أي: وِعاءَيْنِ كَبيرَيْنِ، مَلَأهما طَعامًا، وجعَلَ معَهما مالًا وثيابًا، ثمَّ ناوَلَها خِطامَه -وهو الحبْلُ الذي يُشَدُّ به البعيرُ- وقال لها: اقْتادِيه، أي: قُوديهِ إلى البَيتِ.
فقال رَجلٌ لعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه: أعْطَيْتَها كَثيرًا، فقال له عُمَرُ رَضيَ اللهُ عنه: ثَكِلَتكَ أُمُّكَ، أي: فقَدَتكَ، وهي كَلمةٌ تَقولُها العَرَبُ للتَّوْبيخِ، ولا يُريدونَ حَقيقَتَها، ثمَّ بيَّنَ للرَّجلِ سَببَ إكْرامِه لها وإكْثارِه؛ وهو أنَّه رَأى أباها خُفافًا رَضيَ اللهُ عنه، وأخاها قدْ حاصَرا حِصنًا مِن حُصونِ المُشرِكينَ، ففَتَحاهُ، قال عُمَرُ: «ثمَّ أصْبَحْنا نَستَفيءُ سُهْمانَهما فيه»، أي: نَطلُبُ الغَنيمةَ مِن سُهْمانِهما، ونَأخُذُها لأنفُسِنا، ونَقتَسِمُ بها.
وفي الحَديثِ: كَلامُ المَرأةِ الشَّابَّةِ الإمامَ في حاجَتِها، وإفْصاحُ السَّائلِ عن حالِه ونَسَبِه.
وفيه: فَضلُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه، وحُسنُ رِعايتِه للرَّعيَّةِ، ولِقاؤُه السَّائلَ منهم بانْطِلاقٍ وانْشِراحٍ، واعْتِرافُه بفَضلِ أصْحابِ الفَضلِ.
وفيه: فَضيلةُ خُفافِ بنِ إيماءٍ الغِفاريِّ وابنِه رَضيَ اللهُ عنهما.
وفيه: إغْناءُ السَّائِلِ في دَفْعةٍ واحِدةٍ.