باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان 5

بطاقات دعوية

باب غزوة الطائف في شوال سنة ثمان  5

عن عبد الله بن زيد بن عاصم قال: لما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين؛ قسم فى الناس فى المؤلفة قلوبهم، ولم يعط الأنصار شيئا، فكأنهم وجدوا (154) إذ لم يصبهم ما أصاب الناس، فخطبهم، فقال:
«يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بى؟ وعالة فأغناكم الله بى؟»، كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال: «ما يمنعكم أن تجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم؟». قال: كلما قال شيئا قالوا: الله ورسوله أمن. قال:
«لو شئتم قلتم: جئتنا كذا وكذا، أترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون بالنبى - صلى الله عليه وسلم - إلى رحالكم؟! لولا الهجرة، لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس واديا وشعبا؛ لسلكت وادى الأنصار وشعبها، الأنصار شعار، والناس دثار، إنكم ستلقون بعدى أثرة، فاصبروا حتى تلقونى على الحوض».

أثْنَى اللهُ سُبحانَه وتعالى على الأنْصارِ، فقال في حقِّهم: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]، وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعرِفُ حقَّهم وفَضْلَهم، فأَوْصى بهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ودَعا لهم بالبَرَكةِ والمَغفِرةِ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كان قد خرَجَ لحَربِ قَبيلةِ هَوازِنَ يومَ حُنَينٍ، وكان ذلك بعْدَ فَتحِ مكَّةَ في العامِ الثَّامِنِ مِن الهِجْرةِ، وحُنَينٌ وادٍ بيْنَ مكَّةَ والطَّائفِ، بيْنه وبيْنَ مكَّةَ 26 كم. فاشتَرَكَ معَه في هذه الحَربِ عَشَرةُ آلافٍ مِن المُسلِمينَ بالإضافةِ إلى الطُّلقاءِ، وهمُ الَّذين مَنَّ عليهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن أهلِ مكَّةَ يومَ الفَتحِ، فلمْ يَأْسِرْهم أو يَقتُلْهم، وكان منهم أبو سُفْيانَ بنُ حَربٍ وغَيرُه، فلمَّا بَدأَ القِتالُ تَراجَعوا وتَقَهقَروا، فنادى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على الأنْصارِ، وقال: يا مَعشَرَ الأنْصارِ، فقالوا: لَبَّيكَ يا رَسولَ اللهِ وسَعدَيْكَ، لَبَّيكَ ونحْن بيْنَ يدَيْكَ، أي: لُزومًا لطاعَتِكَ، وإجابةً بعْدَ إجابةٍ لأمْرِكَ، وسَعيًا في إسْعادِكَ إسْعادًا بعدَ إسْعادٍ، ثمَّ تَجمَّعوا ونزَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن دابَّتِه، وقال: «أنَا عبدُ اللهِ ورَسولُه»، وهذا تَأكيدٌ على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولُ اللهِ حقًّا، وأنَّه مَوْعودٌ بالنَّصرِ، وفي الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ البَراءِ بنِ عازبٍ رَضيَ اللهُ عنهما: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «أنا النَّبيُّ لا كَذِبْ *** أنا ابنُ عبدِ المُطَّلِبْ»، أي: فلسْتُ بكاذِبٍ في قَوْلي حتَّى أفِرَّ، وانتسَبَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى جَدِّه لشُهرَتِه به، ثمَّ صَفَّ أصْحابَه، ورتَّبَ صُفوفَهم؛ ليَعودوا إلى القِتالِ، وقاتَلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأصْحابُه حتَّى هزَمَ اللهُ تعالَى المُشرِكينَ، ثمَّ جمَعَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الغَنائمَ، وأعْطى المُهاجِرينَ، وأعْطى الطُّلقاءَ حتَّى يَتألَّفَ قُلوبَهم وتَجتمِعَ على مَحبَّةِ الإسْلامِ؛ لأنَّ القُلوبَ مَجْبولةٌ على حُبِّ مَن يُحسِنُ إليها، وكانوا لا يَزالونَ حَديثي عَهدٍ بإسْلامٍ، فلمَّا عَلِمَ الأنْصارُ ذلك حَزِنوا، وظنُّوا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُفضِّلُ الطُّلقاءَ عليهم، فلمَّا علِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بذلك جمَعَهم في قُبَّةٍ، وهي بَيتٌ صَغيرٌ مُستَديرٌ، وقال لهمْ: «أمَا تَرْضوَنَ أنْ يَذهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتَذهَبونَ برَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ!»، أي: تَرجِعونَ إلى المَدينةِ ومعَكمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، ويَرجِعُ النَّاسُ بالغَنائمِ؟ فقالوا: رَضِينا يا رَسولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لو سلَكَ النَّاسُ وَاديًا، وسلَكَتِ الأنْصارُ شِعبًا؛ لاختَرْتُ شِعبَ الأنْصارِ» فتَبِعْتُهم في طَريقِهم، وترَكْتُ الطَّريقَ الآخَرَ الَّذي سلَكَه النَّاسُ -والشِّعبُ: الطَّريقُ في الجبَلِ-؛ وذلك لحُسنِ جِوارِهم، ووَفائِهم بالعَهدِ، ونُصرَتِهم لدِينِ اللهِ ولرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ. وفي رِوايةٍ أُخْرى للبُخاريِّ أنَّه قال لهم: «الأنْصارُ شِعارٌ»، وهو الثَّوبُ الَّذي على الجِلدِ، «والنَّاسُ دِثارٌ» وهو الثَّوبُ الَّذي يُلبَسُ فوقَ الشِّعارِ، فأرادَ أنَّهم أقرَبُ النَّاسِ إليه.
وفي الحَديثِ: أنَّ مَن فازَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ واتِّباعِه، فقدْ فاز بكلِّ شيءٍ.
وفيه: الصَّبرُ عن حُظوظِ الدُّنْيا وحُطامِها، وما استُؤْثِرَ به منها، وادِّخارُ ثَوابِ ذلك للدَّارِ الآخِرةِ الَّتي لا تَفْنى.
وفيه: تَأليفُ قُلوبِ بعضِ النَّاسِ بالمالِ حتَّى يَثبُتوا على الإسْلامِ.
وفيه: بَيانٌ لشَجاعةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.