باب فى الجلوس فى الطرقات
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا عبد العزيز - يعنى ابن محمد - عن زيد - يعنى ابن أسلم - عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال « إياكم والجلوس بالطرقات ». فقالوا يا رسول الله ما بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « إن أبيتم فأعطوا الطريق حقه ». قالوا وما حق الطريق يا رسول الله قال « غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ».
لا يحل إيذاء المسلم وإلحاق الضرر به، صغيرا كان أو كبيرا، وقد راعت الشريعة الإسلامية المطهرة حقوق الجميع ومصالحهم
وفي هذا الحديث يحذر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين من الجلوس على الطرقات؛ على المساطب أو الأرائك، أو الكراسي أو الفرش؛ لأن الجلوس على الطرقات يؤدي -في الأغلب- إلى أذية الناس، وذلك بإحراجهم بملاحقتهم بالنظرات، أو تضييق الطريق عليهم، إلى غير ذلك، ولأن الجالس في الطريق قد يتعرض للفتنة، أو يعرض غيره لها، وغير ذلك من المفاسد، فلما قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: «ما لنا بد منها»، أي: لا غنى لنا عنها؛ لأنها مجتمعاتنا وأنديتنا التي نتحدث فيها بشؤوننا، ونتذاكر في مصالحنا من أمور الدين ومصالح الدنيا، ونروح عن نفوسنا بالمحادثة في المباح، ويسري بعضنا عن بعض؛ فتركها يشق علينا، وكأنهم فهموا من كلامه صلى الله عليه وسلم أنه للتحذير، وليس للنهي الصريح، أو أن النهي للتنزيه، ولا يراد به التحريم؛ لأنهم لم يعهدوا من الرسول صلى الله عليه وسلم تحريم نافع، ولا إباحة ضار، أو أن النهي لمعنى متصل بالمجالس، لا لنفسها وذاتها، وقد يمكنهم مجانبة هذا المعنى الذي من أجله كان النهي، وإلا فإن الصحابة رضي الله عنهم أسرع الناس إجابة لأوامر الله ورسوله؛ ولذلك كانت مراجعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم استفسارا على ما فهموه منه، وليس معارضة له -حاشاهم-، ولو علموا أن النهي عزمة من العزمات ما راجعوه، ولبادروا إلى الامتثال مباشرة، فأجابهم النبي صلى الله عليه وسلم بما يدل على أن النهي ليس لذات المجالس، وإنما هو من أجل حقوق الطريق التي يتعرض لها الجالس؛ فقال صلى الله عليه وسلم: «فإذا أبيتم إلا المجالس فأعطوا الطريق حقها» تأكيدا لما للطريق من آداب وحقوق، فسألوه سؤال المسترشد عن حقها، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بقوله: «غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر»
وغض البصر: يكون بكفه عما لا يحل النظر إليه، وكفه عن كل ما تخشى الفتنة منه؛ فلا ينظر إلى ما لا يجوز له النظر إليه، كالنظر إلى النساء، وأشار بغض البصر إلى السلامة من التعرض للفتنة بمن يمر من النساء وغيرهن، وخوف ما يلحق من النظر إليهن إذا مر النساء في الشوارع لحوائجهن
وكف الأذى: يكون بعدم أذية العباد بالقول أو بالفعل؛ باللسان أو اليد؛ فلا يشتم، ولا يسب، ولا يحتقر، ولا يعيب، ولا يغتاب، ولا يضرب أحدا باليد أو العصا من غير ما جرم اجترمه، ولا ذنب اقترفه، ولا يسلب شيئا مما يحمله من غير أن تطيب به نفسه، ولا يريق الماء في الطريق؛ لئلا تزل به الأقدام، ولا يضع عقبات يعثر فيها المشاة، ولا يلقي قاذورات أو أشواكا تضر المارة، ولا يضيق الطريق بمجلسه أو قعوده حيث يتأذى الجيران، فيكشف نساءهم، ويقيد عليهم حريتهم، وقد يؤدي ذلك إلى امتناع النساء من الخروج إلى أشغالهن بسبب قعودهم في الطريق، والاطلاع على أحوال الناس مما يكرهونه، كل ذلك وغيره من الأذى الذي يجب كفه وإبعاده عن المارة، بل يشمل هذا كف الأذى عن الحيوانات كذلك.
ورد السلام: وهذا واجب، وفيه إكرام للمار -وهو الذي يبتدئ بالسلام على الجالس- والسلام ورده رسول الألفة وداعية المحبة؛ فعلى الجالس ألا يسأم كثرته من المارين؛ فإن المار يتحبب به إلى الجالس ويحييه ويكرمه؛ فعلى الجالس أن يرد السلام والتحية بمثلها أو أحسن منها، ويود من واده، ويكرم من أكرمه، كما قال الله تعالى: {وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها} [النساء: 86].
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يكون باستعمال جميع ما يشرع، وترك جميع ما لا يشرع؛ لكن بحيث لا يتعدى إلى الأمر الأنكر، حتى إن ظن أن ذلك لا يفيد، فإذا حصل أمر يقتضي أن يوجه إلى خير، وأن يبصر بحق؛ فإنه يأمر بالمعروف، وكذلك إذا رأى أمرا منكرا، فإنه ينبه الذي حصل منه المنكر على ذلك، ويحذر من ذلك، ويخوف منه، وعليه في كل ذلك أن يأمر بالمعروف بأسلوب حسن، وينهى عن المنكر بغير منكر؛ فإذا رأى متشاجرين أو متقاتلين فعليه أن يأمرهما بالكف عن هذا، ويصلح بينهما، وإذا رأى شابا يلاحق فتاة ويعترضها في طريقها، فلينصح له، ويدفعه عن هذا بما استطاع في غير تهور ولا إضرار، وهكذا، وعليه أن يحقق أولى المصالح وأهمها، وليعلم أن دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، وأن المفسدة الصغرى تحتمل في جانب دفع المفسدة العظمى
فهذه جملة عظيمة من آداب الطريق، وأيضا يدخل ضمن هذه الآداب المذكورة في هذا الحديث: حسن الكلام، وإرشاد ابن السبيل، وإغاثة الملهوف، وهداية الضال وإرشاده، وإعانة المظلوم، والمعاونة على حمل الأغراض، ونحو ذلك
وفي هذا الحديث ندب إلى حسن معاملة المسلمين بعضهم لبعض؛ فإن الجالس على الطريق يمر به العدد الكثير من الناس، ويحصل بينهم معاملات كثيرة؛ فعليه بحسن المعاملة في كل هذا