باب فى الغيبة

باب فى الغيبة

حدثنا واصل بن عبد الأعلى حدثنا أسباط بن محمد عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبى صالح عن أبى هريرة قال قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- « كل المسلم على المسلم حرام ماله وعرضه ودمه حسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم ».

الألفة والمحبة بين المسلمين من أعظم مقاصد الشريعة الإسلامية المطهرة؛ لذا جاء النهي عن كل أسباب الفرقة والتشاحن في المجتمع، وقد أخبر الله تعالى أن المؤمنين إخوة في الدين، والأخوة ينافيها الحقد والبغضاء، وتقتضي التوادد والتناصر وقيام الألفة والمحبة فيما بينهم
وفي هذا الحديث نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مساوئ الأخلاق، ومنها الحسد؛ فلا يحسد بعضنا بعضا، والحسد هو تمني زوال نعمة المحسود، وهو اعتراض على الله تعالى له حيث أنعم على غيره، مع محاولته نقض فعله تعالى وإزالة فضله سبحانه، والحسد غير الغبطة، وهي أن يرى المرء نعمة عند غيره، فيتمنى مثلها لنفسه دون زوالها عن أخيه؛ فإن كانت الغبطة في أمر دنيوي -من صحة، أو قوة، أو مركز، أو ولد- فلا بأس بها، وإن كانت في أمر ديني -كالعلم النافع، أو المال الصالح- فهي مطلوبة شرعا، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة، فهو يقضي بها ويعلمها»، وفي البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل علمه الله القرآن، فهو يتلوه آناء الليل وآناء النهار، فسمعه جار له، فقال: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل، ورجل آتاه الله مالا، فهو يهلكه في الحق، فقال رجل: ليتني أوتيت مثل ما أوتي فلان، فعملت مثل ما يعمل»
ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن النجش، وهو أن يزيد الإنسان في سعر السلعة لا لرغبة في شرائها؛ بل ليخدع غيره بتكثير الثمن عليه ليشتريها بسعر زائد، سواء كان بمواطأة البائع أم لا؛ لأنه غش وخداع، ويحتمل أن يفسر التناجش المنهي عنه في هذا الحديث بما هو أعم من ذلك؛ فإن أصل النجش في اللغة إثارة الشيء بالمكر والحيلة والمخادعة، وحينئذ يكون المعنى: لا تتخادعوا، ولا يعامل بعضكم بعضا بالمكر والاحتيال، وإنما يراد بالمكر والمخادعة إيصال الأذى إلى المسلم
ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التباغض، وهو ألا يتعاطى الرجل أسباب البغض لأخيه المسلم؛ لأن البغض لا يكتسب ابتداء، والبغض هو النفرة عن الشيء لمعنى فيه مستقبح، وترادفه الكراهة، ثم هو بين اثنين؛ إما من جانبيهما أو من جانب أحدهما، وعلى كل فهو إذا لم يكن حمية للدين وغيرة على انتهاك محارم الله؛ فهو منهي عنه، وأما البغض في الله فإنه يثاب فاعله؛ لتعظيم حق الله، فلا يتباغض المسلمون بينهم في غير الله تعالى؛ فإن الله تعالى جعلهم إخوة، والإخوة يتحابون بينهم ولا يتباغضون
ثم نهى عن التدابر، وهو أن يولي المسلم أخاه المسلم ظهره ودبره؛ إما حسيا فلا يجالسه ولا ينظر إليه، وإما معنويا فلا يظهر الاهتمام به، والمقصود نهيهم عن التقاطع والتهاجر، فيعرض عما يجب لأخيه المسلم من حقوق الإسلام كالإعانة والنصر، وإلقاء السلام عليه، وعدم الهجران في الكلام أكثر من ثلاثة أيام إلا لعذر شرعي
ثم نهى صلى الله عليه وسلم عن بيع بعضهم على بيع بعض، فلا يصح لأحد بغير إذن البائع أن يقول لمشتري سلعة في زمن الخيار: افسخ هذا البيع وأنا أبيعك مثله بأرخص من ثمنه أو أجود منه بثمنه؛ وذلك لما فيه من الإيذاء الموجب للتنافر والبغض
ثم بين لهم المنزلة التي ينبغي أن يكونوا عليها، وهي الأخوة، كأخوة النسب في الشفقة والرحمة، والمحبة والمواساة، والمعاونة والنصيحة، فأمرهم أن يأخذوا بأسباب كل ما يوصلهم لمثل الأخوة الحقيقية مع صفاء القلب، والنصيحة بكل حال
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسلم -سواء كان حرا أو عبدا، بالغا أو غير بالغ- أخو المسلم في الإسلام، فهي أخوة دينية، وهي أعظم من الأخوة الحقيقية؛ لأن ثمرة هذه دنيوية، وثمرة تلك أخروية، فالمسلم لا يظلم المسلم؛ فإن الله سبحانه حرم قليل الظلم وكثيره، وفي الوقت نفسه «لا يخذله»، أي: لا يتركه إلى الظلم، ولا يترك إعانته ونصره، «ولا يحقره» فلا يستصغر شأنه ويضع من قدره؛ فالاحتقار ناشئ عن الكبر، فهو بذلك يحتقر غيره ويراه بعين النقص، ولا يراه أهلا لأن يقوم بحقه
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم المعنى الحقيقي للتقوى فقال: «التقوى هاهنا» والتقوى هي الخوف من الله واجتناب عذابه بفعل المأمور وترك المحظور، والمعنى: اجعلوا هذه الأمور وقاية بينكم وبين النار، وإذا كان أصل التقوى الخوف، والخوف إنما ينشأ عن المعرفة بجلال الله وعظمته وعظيم سلطانه وعقابه، والخوف والمعرفة محلهما القلب؛ فلذلك أشار صلى الله عليه وسلم بيده إلى صدره ثلاث مرات، أي: محل مادتها من الخوف الحاصل عليها القلب، الذي هو عند الصدر، وفي هذا إشارة إلى أن التقوى الحقيقية هي ما كان من الأعمال والاعتقادات التي يصدقها القلب ويعقد عليها بالإخلاص، وليس ما يكون من الأعمال الظاهرة التي فيها رياء، وليس فيها إخلاص لله
ثم قال صلى الله عليه وسلم: «بحسب امرئ»، أي: يكفي الإنسان من الشر؛ وذلك لعظمه في الشر، كاف له عن اكتساب آخر؛ أن يحقر أخاه المسلم، فإنه النصيب الأكبر والحظ الأوفى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «كل المسلم على المسلم حرام؛ دمه، وماله، وعرضه»؛ فلا يقتل مسلم مسلما، أو يسرقه، أو يزني بحريمه، ولا يطعن في شرفه