باب فى صلاة الليل

باب فى صلاة الليل

حدثنا محمد بن بشار حدثنا يحيى بن سعيد عن سعيد عن قتادة بإسناده نحوه قال : يصلى ثمان ركعات لا يجلس فيهن إلا عند الثامنة فيجلس فيذكر الله عز وجل ثم يدعو ثم يسلم تسليما يسمعنا ثم يصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم ثم يصلى ركعة فتلك إحدى عشرة ركعة يا بنى فلما أسن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخذ اللحم أوتر بسبع وصلى ركعتين وهو جالس بعد ما يسلم بمعناه إلى مشافهة.

كان النبي صلى الله عليه وسلم في بيته يقوم من الليل ما شاء الله له أن يقوم، وكان الصحابة –والتابعون من بعدهم- يحرصون على معرفة تفاصيل عبادته، ويسألون عما لا يرونه مما كان يتعبد به النبي صلى الله عليه وسلم في بيته
وفي هذا الحديث يروي التابعي زرارة بن أوفى الحرشي البصري أن التابعي سعد بن هشام بن أمية الأنصاري أراد أن يتجرد للغزو والجهاد في سبيل الله، فطلق امرأته وجاء إلى المدينة النبوية -وكان حينئذ بالبصرة، كان مقيما بها هو وأبوه الصحابي هشام بن عامر رضي الله عنه- فأراد أن يبيع عقارا، والعقار ما لا يقبل النقل من المال، كالأرض والدار، وربما أطلق على المتاع، ويشتري بثمن هذا العقار السلاح، كالسيف والرماح والقوس، «والكراع» وهو الخيل، ويجاهد الروم حتى يموت وهو على تلك الحال، وظاهر أمره أنه أراد التبتل والانقطاع عن الدنيا
فلما جاء إلى المدينة لقي أناسا من أهل المدينة، فلما عرفوا ما عزم عليه، نهوه عن ذلك، وأخبروه أن رهطا -وهم الجماعة من الناس- وكانوا ستة، أرادوا ذلك الذي قصدته من تطليق النساء وبيع المتاع لإرادة الغزو في حياة نبي الله صلى الله عليه وسلم، فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم، وقال: «أليس لكم في أسوة؟!»، أي: قدوة حسنة تقتدون بها؟! فاستجاب سعد بن هشام لما نصحه به هؤلاء القوم، فراجع امرأته، والرجعة هي أن يرجع الرجل زوجته بعد طلاقها من طلقة واحدة أو اثنتين وقبل خروجها من عدتها، وأشهد على رجعتها إلى نكاحه، وإنما أشهد على رجعتها؛ عملا بقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم} [الطلاق: 2]
ثم ذهب سعد إلى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فسأله عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والوتر هو آخر صلاة يصليها المسلم بعد التنفل في صلاة الليل، وهو أفضل أعمال التطوع التي يأتي بها المسلم، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: «ألا أدلك على أعلم أهل الأرض بوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم؟»، أي: أفضل من يخبرك به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلم به من غيره، وإن كان الوتر عملا مشهورا يعرفه العالم وغيره، إلا أن سعدا لما قيد سؤاله برسول الله صلى الله عليه وسلم، كان أهل الاختصاص أولى بالإجابة ما داموا حاضرين، فسأله سعد عنه، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: «عائشة» أم المؤمنين رضي الله عنها، فأمره أن يذهب إليها ويعرض عليها سؤاله، ثم يرجع فيخبره بردها وجوابها، وإنما كانت عائشة رضي الله عنها أعلم بذلك؛ لأن الوتر صلاة ليلية تؤدى في البيت، وأمهات المؤمنين رضي الله عنهن أعلم بذلك، وأولاهن به عائشة رضي الله عنها؛ لشدة حرصها على حفظ آثار النبي صلى الله عليه وسلم
فانطلق سعد وذهب إليها كما أمره ابن عباس رضي الله عنهما، وفي أثناء طريقه مر على التابعي حكيم بن أفلح، فطلب منه أن يرافقه ويصاحبه في الذهاب إلى عائشة رضي الله عنها، فقال حكيم بن أفلح: «ما أنا بقاربها»، أي: لا أريد قربها، ولن أذهب إليها معك؛ «لأني نهيتها أن تقول في هاتين الشيعتين شيئا»، أي: الطائفتين، والمراد بهما: طائفة علي رضي الله عنه، وطائفة الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما، والمعنى: نهيتها عن الدخول في تلك المحاربة الواقعة، ولكنها امتنعت ولم تستجب، ولم ترض إلا الذهاب فيما أرادت، فكانت مع من خالف عليا رضي الله عنه في معركة الجمل
وأخبر سعد أنه أقسم عليه وناشده الذهاب إلى عائشة رضي الله عنه، فاستجاب إليه حكيم، وانطلقا معا إلى عائشة رضي الله عنها، فطلبا الإذن في الدخول عليها، فأذنت عائشة رضي الله عنها في دخولهما، وسألت الداخل عليها: هل أنت حكيم؟ وقد عرفته، ولعلها عرفته بصوته حين سلم عليها، فرد عليها حكيم، فقال: نعم، فسألته عن صاحبه الذي معه، فأخبرها حكيم أنه سعد بن هشام، فسألت عن هشام من يكون؟ فأخبرها حكيم أنه هشام بن عامر بن أمية رضي الله عنهما، فدعت لعامر أن يرحمه الله، وأثنت عليه خيرا، كما في رواية أخرى في صحيح مسلم: «نعم المرء كان عامر»، وكان عامر رضي الله عنه ممن استشهد وقتل يوم أحد في السنة الثالثة من الهجرة
فسألها سعد: يا أم المؤمنين، أخبريني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لسعد: «ألست تقرأ القرآن؟» وهو استفهام تقريري؛ لأنها تعرف أنه ممن قرأ القرآن، فأجاب: بلى، أي: إنه ممن يقرأ القرآن، فقالت له عائشة رضي الله عنها: «فإن خلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن»، أي: إنه صلى الله عليه وسلم تخلق بكل ما في القرآن من مكارم الأخلاق، والتزم به، وتجنب ما فيه من ممنوعها، فكان خلقه العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه
ويخبر سعد أنه حدث نفسه بأن يقوم من عندها ويذهب، ولا يسأل أحدا من الناس أبدا عن شيء من خلقه صلى الله عليه وسلم حتى يموت، حيث إنها أجملت له ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، حينما أحالته على القرآن الكريم الجامع لكل صفات الكمال، فيمكنه تتبع أخلاقه صلى الله عليه وسلم منه إجمالا وتفصيلا، فلا يبقى عليه حاجة إلى سؤال شيء من أخلاقه صلى الله عليه وسلم
ثم بعد ما هم بالقيام من عند عائشة رضي الله عنها، ظهر له أن يسألها عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاته وتنفله في الليل، فلما طلب منها أن تخبره، سألته عائشة رضي الله عنها: «ألست تقرأ: {يا أيها المزمل}»، أي: السورة كلها، فأجاب بأنه يقرؤها، فقالت: «فإن الله عز وجل افترض»، أي: أوجب عليه صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه «قيام الليل في أول هذه السورة»؛ وذلك في قوله تعالى: {قم الليل إلا قليلا} [المزمل: 2]، فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فصلوا في الليل عاما كاملا، وفي رواية أبي داود: «حتى انتفخت أقدامهم»، وأمسك الله سبحانه وتعالى عنده خاتمة السورة ونهايتها التي فيها التخفيف والتيسير بقراءة ما تيسر من القرآن، اثني عشر شهرا في السماء، حتى أنزل الله في آخر هذه السورة التخفيف، وهو قوله تعالى: {إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأقرضوا الله قرضا حسنا وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا وأعظم أجرا واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} [المزمل: 20]، فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة
وقد خولفت رضي الله عنها في المدة التي كانت بين أول السورة وآخرها؛ فقيل: بعد عشر سنين، وهو الظاهر؛ لأن السورة مكية، ومن أول ما نزل من القرآن، إلا الآيتين آخرها نزلت بالمدينة
ثم سألها سعد بن هشام عن وتر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن كيفيته وعدد ركعاته، فأخبرته رضي الله عنها أنهم كانوا يجهزون له صلى الله عليه وسلم سواكه والماء الذي يتطهر به؛ ليتوضأ به بعد استيقاظه من النوم؛ لأنه كان ينام بعد صلاة العشاء، «فيبعثه الله»؛ وعبرت بالبعث لأن النوم أخو الموت، أي: يوقظه من نومه، فيتسوك بالسواك، ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات موصولات، لا يجلس ولا يسلم فيها إلا في الثامنة، فيجلس للتشهد بعدها، «فيذكر الله»، أي: أنه يقول التشهد، ويحمده، فيصفه بما يليق به من صفات الكمال، ويدعوه ويسأله حاجته، ثم يقوم من الثامنة ولا يسلم بعدها، فيصلي التاسعة، ثم يقعد بعدها للتشهد، فيذكر الله تعالى في تشهده، ويحمده ويدعوه، ثم يسلم بعد التاسعة تسليما يسمعهم، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد قبل الفجر، وقد ورد في الصحيحين وغيرهما أحاديث كثيرة مشهورة بالأمر بجعل آخر صلاة الليل وترا، منها حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترا»، وأما عن تلك الركعتين اللتين صلاهما النبي صلى الله عليه وسلم بعد الوتر وقبل الفجر، فهو لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وليستا على الدوام؛ فإن دوامه صلى الله عليه وسلم كان على الوتر
ثم أخبرت رضي الله عنها سعدا أن تلك الركعات المذكورة من التسع والركعتين مجموعها إحدى عشرة ركعة، ونادته بقولها: »يا بني» تصغير ابن، تصغير شفقة وملاطفة، وأخبرته أنه لما كبر نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكثر اللحم في جسمه صلى الله عليه وسلم عما كان عليه في عامة عمره، أوتر بسبع، وفعل في الركعتين مثل فعله الأول، أي: صلاهما بعد ما سلم من السبع وهو قاعد، فتلك السبع مع الركعتين تسع
ثم أخبرته أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة أحب أن يداوم عليها، وكان صلى الله عليه وسلم إذا غلبه نوم أو وجع من مرض عن قيام الليل، صلى في النهار اثنتي عشرة ركعة، قضاء لما فاته من قيام الليل، وهذا بيان لمداومته صلى الله عليه وسلم ومواظبته عليها، والحديث ليس صريحا في كونه صلى الله عليه وسلم فاته الوتر، بل الظاهر أنه لم يفته، بل صلاة الليل فقط دون الوتر، وظاهره أيضا أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتي بالوتر تحوطا إذا ظن في نفسه عدم القيام للتنفل
ثم أخبرت عائشة رضي الله عنها أنها لا تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرا كاملا غير رمضان، وهذا كله لبيان تيسيره صلى الله عليه وسلم وأخذه بقدر طاقته واستطاعته في العبادة تعليما لأمته
وأخبر سعد بن هشام أنه رجع إلى ابن عباس رضي الله عنهما، فحدثه بحديث عائشة، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: «صدقت» عائشة رضي الله عنها فيما حدثتك به، وأخبره أنه لو كان يدخل عليها ويكلمها لجاء إليها حتى تحدثه وتخبره بهذا الحديث بلا واسطة. فقال سعد لابن عباس رضي الله عنهما: «لو علمت أنك لا تدخل عليها ما حدثتك حديثها»، قال له ذلك عتابا على ترك الدخول عليها ومكافأته على ذلك بأن يحرمه الفائدة حتى يضطر إلى الدخول عليها، ويشبه أن يكون ترك الكلام معها لأجل المنازعة التي كانت بينها وبين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، أو لأمر آخر
وفي الحديث: أن من هديه صلى الله عليه وسلم السواك عند القيام من النوم
وفيه: فضيلة عائشة رضي الله عنها، وعلمها بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم
وفيه: الإنصاف والاعتراف بالفضل لأهله، والتواضع
وفيه: تكريم المسلم بذكر فضائل أبيه، والترحم عليه
وفيه: الرفق بالنفس، والاقتصاد في العبادة، وترك التعمق فيها
وفيه: اهتمامه صلى الله عليه وسلم بصلاة الوتر
وفيه: يستحب للعالم إذا سئل عن شيء، ويعرف أن غيره أعلم به منه؛ أن يرشد السائل إليه؛ فإن الدين النصيحة