باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير
بطاقات دعوية
حديث أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا
كان النبي صلى الله عليه وسلم يولي أصحابه على البلدان، وكان يوصيهم بما ينفعهم في الحكم بين الناس، وبما يقيم العدل فيهم، وكان يوصيهم بالتشاور في المعضلات حتى يصدروا عن اجتهاد، ورأي الجماعة
وفي هذا الحديث يحكي التابعي أبو بردة عامر بن أبي موسى الأشعري، أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل أبا موسى الأشعري ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن، وهذه الرواية توحي بأنهما أرسلا معا، وأوصاهما معا في وقت واحد، ولكن ورد عند النسائي عن أبي موسى الأشعري: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن، ثم أرسل معاذ بن جبل بعد ذلك»، وفي رواية للبخاري: «ثم أتبعه معاذ بن جبل»
ثم أخبر أبو بردة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بعث كل واحد منهما على «مخلاف»، أي: إقليم، وكانت اليمن مقسمة إلى إقليمين، وكانت جهة معاذ بن جبل رضي الله عنه العليا إلى صوب عدن، وكان من عمله منطقة الجند: بفتح الجيم والنون، وله بها مسجد مشهور إلى اليوم، وجهة أبي موسى رضي الله عنه السفلى، فقال صلى الله عليه وسلم: «يسرا ولا تعسرا»، أي: خذا بما فيه اليسر والسهولة، ولا تأخذا بما فيه الشدة، أو يسرا فيما كان من النوافل مما كان شاقا؛ لئلا يفضي بصاحبه إلى الملل، فيتركه أصلا، أو يعجب بعمله، فيحبط، وفيما رخص فيه من الفرائض، كصلاة الفرض قاعدا للعاجز، والفطر في الفرض لمن سافر فيشق عليه، «وبشرا ولا تنفرا»، أي: بشرا، ولا تنذرا، وآنسا، ولا تنفرا، فجمع بينهما؛ ليعم البشارة، والنذارة، والتأنيس، والتنفير. وفي الإتيان بلفظ البشارة والتنفير؛ للإشارة إلى أن الإنذار لا ينفى مطلقا، بخلاف التنفير، فكأنه قيل: إن أنذرتم، فليكن بغير تنفير
فانطلق كل واحد منهما إلى عمله، وكان كل واحد منهما إذا سار في أرضه، وكان قريبا من صاحبه جدد العهد بزيارة صاحبه، فيزوره، ويسلم عليه، فسار معاذ بن جبل رضي الله عنه يوما في أرضه قريبا من صاحبه أبي موسى رضي الله عنه، فذهب إلى أبي موسى رضي الله عنه زائرا، وكان راكبا على بغلته، حتى انتهى إلى أبي موسى رضي الله عنه، فرآه جالسا وقد اجتمع إليه الناس، ووجد عنده رجلا قد جمعت يداه إلى عنقه، فنادى معاذ أبا موسى رضي الله عنهما باسمه: «يا عبد الله بن قيس»، ثم قال: «أيم هذا؟» أي: أي شيء هذا؟ فأجابه أبو موسى رضي الله عنه: هذا رجل ارتد وكفر بعد إسلامه. فقال معاذ رضي الله عنه: لا أنزل عن دابتي حتى يقتل، فقال أبو موسى رضي الله عنه: إنما جيء به لذلك، فانزل، قال: ما أنزل حتى يقتل، فأمر به أبو موسى رضي الله عنه، فقتل، ثم نزل معاذ رضي الله عنه
فقال معاذ بن جبل لأبي موسى رضي الله عنهما: يا عبد الله، كيف تقرأ القرآن؟ فأجابه: «أتفوقه تفوقا»، أي: أقرؤه شيئا بعد شيء في آناء الليل والنهار، يعني لا أقرؤه مرة واحدة؛ بل أفرق قراءته على أوقات، مأخوذ من فواق الناقة، وهو أن تحلب، ثم تترك مدة حتى تدر، ثم تحلب، فسأل أبو موسى معاذا رضي الله عنهما: فكيف تقرأ أنت يا معاذ؟ قال: أنام أول الليل، فأقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأجزئ الليل أجزاء؛ جزءا للنوم، وجزءا للقراءة والقيام، فأقرأ ما كتب الله لي، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، أي: أطلب الثواب في الراحة كما أطلبه في التعب؛ لأن الراحة إذا قصد بها الإعانة على العبادة، حصل بها الثواب
وفي الحديث: أن العالم والواعظ والمقبول من قوله مأمور بألا يقنط الناس، وأن ييسر على المبتدئ في الإسلام، ولا يفاجئه بالشدة
وفيه: الألفة والمودة بين الصحابة
وفيه: تقديم أفاضل الناس على العمل واختصاص العلماء منهم
وفيه: سؤال الصاحب صاحبه عن عبادته وحاله مع ربه
وفيه: أن القتل عقوبة المرتد عن الإسلام إلى الكفر