باب في الفتن ومن كان يحفظها
بطاقات دعوية
عن محمد (1) قال جندب جئت يوم الجرعة (2) فإذا رجل جالس فقلت ليهرقن اليوم ههنا دماء فقال ذاك الرجل كلا والله قلت بلى والله قال كلا والله قلت بلى والله قال كلا والله إنه لحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنيه قلت بئس الجليس لي أنت منذ اليوم تسمعني أخالفك وقد سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا تنهاني ثم قلت ما هذا الغضب فأقبلت عليه وأسأله فإذا الرجل حذيفة. (م 8/ 174)
كانَ حُذَيفةُ بنُ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنهما صاحِبَ سرِّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان كَثيرَ السُّؤالِ عن الفِتنِ والشُّرورِ الَّتي ستَقَعُ على امتدادِ الزَّمانِ وبعْدَ عَصرِ النُّبوَّةِ؛ ليَعرِفَ المخرَجَ منها؛ مَخافةَ أنْ تُدرِكَه
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ جُندُبُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَليُّ رَضيَ اللهُ عنه: «جِئتُ يومَ الجَرَعةِ»، وهي موضعٌ بقُربِ الكُوفةِ على طَريقِ الحِيرةِ، والمراد به: يومٌ خَرجَ فيهِ أَهلُ الكوفةِ يَتلقَّون واليًا وهو سَعيدُ بنُ العاصِ وَلَّاه عليهِم الخليفةُ عُثمانُ بنُ عفَّانَ رَضيَ اللهُ عنه أميرًا على الكوفةِ، فَردُّوه، وأرْسَلوا إلى عُثمان رَضيَ اللهُ عنه وطَلَبوا منه أنْ يُولِّيَ عليهم أَبا موسَى الأَشعريَّ رَضيَ اللهُ عنه، فوَلَّاه عليهم، قال جُندُبٌ رَضيَ اللهُ عنه: «فإذا رجلٌ جالسٌ» أي: عندَ مَوضعِ اجتماعِ النَّاسِ، فقُلتُ: «ليُهراقنَّ اليومَ هَاهنا دِماءٌ» أي: سيَقَعُ قِتالٌ تَسيلُ بسَببِه الدِّماءُ، وإنَّما قال رَضيَ اللهُ عنه ذلكَ لِما رأى أهلَ الكوفَةِ يُزاحمون رجُلًا ولَّاه الخليفةُ عُثمانُ رَضيَ اللهُ عنه ولم يَقبَلوه، فخافَ أنْ يَكونَ بيْنَهم في ذلكَ قِتالٌ، فلمَّا سَمِعه الرَّجلُ يقولُ ذلكَ قال: «كلَّا واللهِ!» أي: لا يَقَعُ في هذا الموضعِ قِتالٌ بمِثلِ ما ذكَرْتَ، فجاوَبَه جُندُبٌ رَضيَ اللهُ عنه: «بَلى واللهِ» لَتُراقَنَّ الدِّماءُ، وتَكرَّرَ هذا الكلامُ بنَصِّه بيْنَ جُندُبٍ رَضيَ اللهُ عنه وبيْنَ الرَّجلِ الجالِسِ -ثلاثَ مرَّاتٍ- وفي آخرِ مرَّةٍ أكَّدَ له أنَّه لنْ يَحدُثَ قِتالٌ لحَديثِ حَدَّثينِه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، والظَّاهرُ أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أخبَرَه بذلك صَريحًا، أو لعلَّه كان يَعلَمُ مِن خلالِ هذا الحَديثِ أنَّ مُقاتلةَ المُسلمينَ فيما بَينَهم لا تقَعُ إلَّا بقتلِ عُثمانَ رَضيَ اللهُ عنه، ثُمَّ غضِبَ جُندُبٌ رَضيَ اللهُ عنه وقال له: «بِئسَ الجليسُ لي أنتَ»، وذلك لِما عندَك من حديثٌ وسَمِعتَني أَحْلِفُ على ما يُخالفُه فلمْ تُخبرْني بذلكَ الحديثِ في المرَّةِ الأُولى، ثُمَّ قالَ جُندُبٌ رَضيَ اللهُ عنه لنَفسِه: «ما هذا الغضبُ؟» أي: إنَّه لا مَعنى للغَضبِ، ولا سَببٌ لغَضَبي على هذا الرَّجلِ، ولفظُ أحمَدَ: «ثمَّ قُلتُ: ما لي وللغَضَبِ؟! قال: فتَرَكْتُ الغَضَبَ»، ثمَّ سَألَ جُندُبٌ رَضيَ اللهُ عنه هذا الرَّجلَ ليُعرِّفَه عن نَفسِه، فإذا الرَّجلُ هوَ حُذيفةُ بنُ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنه كاتمُ سِرِّ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
ولعلَّ سَببَ عدَمِ قَولِ الحديثِ في المرَّةِ الأُولى مِن حُذيفةَ رَضيَ اللهُ عنه؛ لِما اشتَهَرَ عنه بيْنَ أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ حُذَيفةَ رَضيَ اللهُ عنه أعلَمُ النَّاسِ بالفِتنِ وزَمنِها، وظَنًّا منه أنَّ جُندُبًا رَضيَ اللهُ عنه يَعرِفُه؛ ولذلك كان جاوَبَه في المرَّاتِ الأُولى مُجرَّدَ النَّفيِ، ولَمَّا عَلِمَ أنَّ جُندُبًا رَضيَ اللهُ عنه لم يَتنبَّهْ له، حَدَّثَه بالحديثِ
وفي الحَديثِ: فَضلُ حُذيفةَ بنِ اليَمانِ رَضيَ اللهُ عنه وسَعةُ عِلمِه بالفِتنِ
وَفيه: تَعظيمُ الصَّحابةِ لكَلامِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفيه: الحَلفُ على ما يَغلِبُ فيه الظَّنُّ
وفيه: سُرعةُ الفَيءِ والرُّجوعِ عن الغضبِ، خاصَّةً إذا لم يكُنْ هناك سَببٌ لهذا الغضبِ