باب في ذكر مصر وأهلها
بطاقات دعوية
عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط (3) فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها فإن لهم ذمة ورحما أو قال ذمة وصهرا (3) فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فاخرج منها قال فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها. (م 7/ 190
مِن رَحمةِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بِأُمَّتِه أنْ وضَعَ لِأصحابِه قَواعدَ مُعاملةِ غيرِ المسْلِمينَ، ولِمَن هُم تَحْتَهم مِن أهلِ البلادِ الَّتي ستُفتَحُ، سواءٌ مَن سيَدخُلون في الإسلامِ أو مَن سيَظلُّون على دِينِهم.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه أَنَّهم سَيَفْتحونَ أرضًا وبلدًا مِن البلدانِ بالإسلامِ، وفي رِوايةٍ أُخرى لمسْلمٍ: «ستَفْتَحون مِصرَ»، وهي البلدُ المعروفُ الَّذي فتَحَه عَمرُو بنُ العاصِ رَضيَ اللهُ عنه في عَهدِ أميرِ المؤمنينَ عُمرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه عامَ عِشرينَ مِن الهجرةِ، وكان قبْلَ ذلكَ تحْتَ الحُكمِ الرُّومانيِّ.
وأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه يَدورُ على ألْسنةِ أهلِها كثيرًا «القيراطُ»، وهو مِعيارٌ في الوزْنِ والقِياسِ، واختلفَتْ مقاديرُه بِاختلافِ الأزمنةِ، والمعنى: لا يَنفَكُّ مُتعامِلانِ مِن أهلِ مِصرَ عن ذِكرِه غالبًا، ثمَّ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم أنْ يَستَوصُوا بأهلِها خيرًا وقْتَ أنْ يَتولَّوا حُكمَها؛ بَالإحسانِ إليهم، وبالصَّفحِ والعَفوِ عمَّا يُنكِرونَه، ولا يَحمِلنَّهم سُوءُ أفعالِهم وأقوالِهم على الإساءةِ، ثمَّ بَيَّنَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَبَبَ أمْرِه بذلكَ فقال: فإنَّ لهم «ذِمَّةً»، أي: أمانًا واحترامًا، يَحتمِلُ أنَّ الذِّمَّةَ للرَّحمِ وللصِّهرِ الَّذي سيَأتي ذِكرُه، ويَحتمِلُ أنَّه أراد ذِمَّةَ العهدِ الَّتي دَخَلوا بها في ذِمَّةِ الإسلامِ أيَّامَ عُمرَ؛ فإنَّ مِصرَ فُتِحَت صُلحًا إلَّا الإسكندريَّةَ، ثمَّ ذَكَر أنَّ لهم أيضًا «رَحِمًا»، وفي رِوايةٍ أُخرى لمسْلمٍ قال: «وصِهرًا»؛ فالرَّحمُ لكونِ هاجرَ أُمِّ إسماعيلَ منهم، وأمَّا الصِّهرُ فلِكونِ ماريةَ أُمِّ إبراهيمَ ابنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ منهم.
ثمَّ أمَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أبا ذَرٍّ رَضيَ اللهُ عنه أنْ يَخرُجَ منها إذا رَأى في تلكَ البلدِ «رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ في مَوْضِعِ لَبِنةٍ»، أي: في شَيءٍ قَليلٍ مِن الأرضِ، يكونُ مِساحتُه قَدْرَ لَبِنةٍ، وهي الطُّوبُ المعمولُ مِن الطِّينِ قَوالبَ، ثمَّ جُفِّفَ في الشَّمسِ حتَّى تَصلَّبَ لِيُبْنى به، والمرادُ مِن المقاتَلةِ: المخاصَمةُ والتَّنازعُ والخصومةُ الَّتي تقَعُ في مَكانِ هذه اللَّبِنةِ مِن الأرضِ، وهلْ هي قَريبةٌ مِن مِلكِ هذا، أو مِن مِلكِ ذاكَ؟ وكأنَّ ذلكَ عَلامةٌ على فَسادِ الأحوالِ، وشُيوعِ الخُصوماتِ، وقيل: يَعني بذلكَ كَثرةَ أهلِها، ومُشاحَّتَهم في أرضِها، واشتغالَهُم بالزِّراعةِ والغرْسِ عن الجهادِ وإظهارِ الدِّينِ، ويَحتمِلُ أنَّ الناسَ إذا ازْدَحَموا على الأرضِ وتَنافَسوا في ذلك كَثُرَت خُصومتُهم وشُرورُهم، وفَشا فيهم البُخلُ والشَّرُّ، فتَعيَّنَ الفرارُ مِن مَحلٍّ يكونُ كذلكَ إنْ وَجَد مَحلًّا آخَرَ خَلِيًّا عن ذلكَ.
ثمَّ أخبَرَ حَرْملةُ بنُ عِمرانَ -أحدُ رُواةِ الحديثِ- أنَّ عبْدَ الرَّحمنِ بنَ شِماسةَ المَهْريَّ الرَّاويَ عن أبي ذَرٍّ مَرَّ برَبِيعَةَ بنِ شُرَحْبِيلَ وأخيه عَبدِ الرَّحمَنِ -وأُمُّهما اسْمُها حَسَنةُ- يَتَنازَعانِ في مَوْضِعِ لَبِنةٍ، فخَرَجَ مِن أرضِ مِصرَ؛ عمَلًا بوَصيَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحديثِ: عَلامةٌ مِن عَلامةِ النُّبوَّةِ؛ لِكونِ الصِّحابةِ فَتحوا مِصْرَ بعْدَ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: الوصيَّةُ بِحفظِ الذِّمَّةِ وصلةِ الرَّحمِ.
وفيه: الأمرُ بالرِّفقِ بأهلِ مِصرَ والإحسانِ إليهم.