باب في رمي الشياطين بالنجوم عند استراق السمع

بطاقات دعوية

باب في رمي الشياطين بالنجوم عند استراق السمع

عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: أخبرني رجل وفي رواية رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأنصار أنهم بينما هم جلوس ليلة مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رمي بنجم فاستنار فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ماذا كنتم تقولون في الجاهلية إذا رمي بمثل هذا قالوا الله ورسوله أعلم كنا نقول ولد الليلة رجل عظيم ومات رجل عظيم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنها لا يرمى بها لموت أحد ولا لحياته ولكن ربنا تبارك وتعالى اسمه إذا قضى أمرا سبح حملة العرش ثم سبح أهل السماء الذين يلونهم حتى يبلغ التسبيح أهل هذه السماء الدنيا ثم قال الذين يلون حملة العرش لحملة العرش ماذا قال ربكم فيخبرونهم ماذا قال قال فيستخبر بعض أهل السماوات بعضا حتى يبلغ الخبر إلى هذه السماء الدنيا فتخطف الجن السمع فيقذفون إلى أوليائهم ويرمون به فما جاءوا به على وجهه فهو حق ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون. (م 7/ 36 - 37

كانت الشَّياطينُ يَسْتَرِقُونَ السَّمعَ مِن السَّماءِ قبْلَ بَعثةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا بَعَث اللهُ نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أرسَلَ عليهم الشُّهُبَ، وصاروا لا يَستطيعون فِعلَ ما كانوا يَفعَلون مِن جُلوسِهم لِسَماعِ الخبرِ مِن السَّماءِ، وهذا ما أخبَرَ عنه تَعالَى بقولِه: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 8، 9].
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: أنَّ رجلًا مِن أصحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الأنصارِ -وهُم أهلُ المدينةِ- أَخبرَه أنَّ الصَّحابةَ بيْنما هم جَالسونَ ذاتَ ليلةٍ مِن اللَّيالي مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ إذ ظَهَر في السَّماءِ نَجْمٌ يَتحرَّكُ كأنَّه قُذِفَ، وَقدِ استَنَارَ وأَضاءَ في جَوِّ السَّماءِ، فسَأل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أصحابَه رَضيَ اللهُ عنهم: «ما كُنتم تقولونَ في الجاهليَّةِ» وهي الفترةُ الَّتي كان النَّاسُ فيها على الشِّركِ قبْلَ مَجيءِ الإسْلامِ، وسُمِّيَت بذلك لكَثْرةِ جَهالاتِهم وضَلالاتِهم، «إذا رُمِيَ بِمثلِ هذا؟» يُشيرُ إلى النَّجمِ الَّذي ظَهَر وأضاءَ في السَّماءِ، فَأجابوا تأدُّبًا مع رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «اللهُ ورسولُه أعلَمُ» بحَقيقةِ هذا النَّجمِ وسَببِ سُقوطِه، وذَكَروا مُعتَقدَهم فيه زمَنَ الجاهليَّةِ، وأنَّهم كانوا يَقولون: «وُلِدَ اللَّيلةَ رجلٌ عظيمٌ، ومات رَجلٌ عظيمٌ» أي: إنَّ استنارةَ النَّجمِ في السَّماءِ علامةٌ على وِلادةِ رجُلٍ ذي شَأنٍ عندما يَكبُرُ، أو مَوتِه؛ وذلك في جَميعِ الأرضِ، فنَفى لهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلك المعتقَدَ، وأخبَرَهُم أنَّ النُّجومَ لا يُرمَى بها لِمَوتِ أحدٍ مِن العُظماءِ ولا لِحياِته، «ولكنْ ربُّنَا تبارَك وتَعالَى اسمُه» أي: تَكاثَرَ خيرُ اسمِه وإحسانُه، وتَرفَّعَ وتَقدَّس عزَّ وجلَّ عمَّا لا يَلِيقُ به «إذا قَضى أمرًا» ممَّا أبْرَمَه فأظْهَرَ قَضاءهُ وما حكَمَ به لملائكتهِ؛ «سبَّحَ حمَلَةُ العرشِ» فنَزَّهوه سُبحانه عمَّا لا يَلِيقُ تَعظيمًا لِأمرِه وخُضوعًا لِقضائهِ، وعرْشُ الرَّحمنِ الَّذي استوَى عليه جلَّ جَلالُه، هو أعْلَى المَخلوقاتِ وأكبرُها وأعظمُها، وهكذا بعْدَ حَملةِ العرشِ يُسبِّحُه أهلُ السَّماءِ السَّابعةِ، ثمَّ أهلُ السَّماءِ السَّادسةِ، وهكذا في كلِّ سَماءٍ، «حتَّى يَبلُغَ التَّسبيحُ» ملائكةَ «السَّماءِ الدُّنيا» وهي السَّماءُ الأُولى الَّتي يَراها أهلُ الأرضِ، ثُمَّ إنَّ الملائكةَ الَّذين يَقْرَبونَ مِن حمَلَةِ العَرْشِ تَسأَلُ حملَةَ العَرْشِ عن أمرِ اللهِ وقَضائهِ، «فَيُخبرونَهم بما قال تَعالَى، فَيَستخبِرُ بعضُ أهلِ السَّمواتِ بَعْضًا» أي: يَظَلُّ أهلُ كلِّ سَماءٍ مِن الملائكةِ يَسْألون أهلَ السَّماءِ الَّذين فَوْقَهم عمَّا قال ربُّ العالَمِين سُبحانه، حتَّى يَصِلَ الخبرُ إلى السَّماءِ الدُّنيا، وإلى أَهلِها مِنَ الملائكةِ، «فَتَخطَفُ الجنُّ السَّمعَ»، أي: يَقصِدون استماعَ الشَّيءِ ممَّا يَحدُثُ، فلا يَصِلون إلى ذلك إلَّا إنِ التَقَطَ أحدُهم بخِفَّةِ حَركتِه وسُرعتِه الكلامَ المسموعَ مِن الملائكةِ ويُلْقُونه إلى أَولِيائِهم مِنَ الكهنةِ والمنجِّمينَ، ولكنَّ الجنَّ لا يُتْرَكون عندَ استماعِهِم كَلامَ الملائكةِ، بلْ يُرْمَون ويُقذَفون بِالشُّهبِ والنُّجومِ السَّاقطةِ مِن السَّماءِ، فيَتْبَعُه الشِّهابُ؛ فإنْ أصابهُ قبْلَ أنْ يُلقِيَها لأصحابِه فاتتْ، وإلَّا سَمِعوها وتَداوَلوها، فما جاؤوا به وأوْصَلوه إلى أَوليائهِم على وَجهِه مِن غيرِ تُصرُّفٍ فيه فهو حقٌّ، وهو كائنٌ واقعٌ، ولكنَّهم «يَقرِفون»، أي: إنَّ هؤلاء الكَهنةَ يَكذِبون فيه ويُوقِعونَ الكذبَ في المسموعِ الصَّادقِ، ويَخلِطونَه ولا يَتركونَه على وجهٍ غالبًا، ويَزيدونَ دائمًا كذِبَاتٍ أُخَرَ مُنْضمَّةً إليه، فما أصابوا به مُوافِقًا لِما في الواقعِ فهو مَخطوفٌ مِن السَّمعِ، وما لم يُصِيبوا فهو المزيدُ مِن طَرَفِ أوليائهِم الكهَنةِ والمنجِّمِين.
وفي الحديثِ: دَلالةٌ مِن دَلائلِ نبوَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: بَيانُ كذِبِ الكَهنةِ وَالعرَّافِينَ فيما يَدَّعونَه مِن عِلْمهِم لِلغَيبِ.
وفيه: أنَّ الملائكةَ لا تَعلَمُ شيئًا مِن الأمورِ إلَّا بما يُعلِمُهم اللهُ تَعالَى به.
وفيه: أنَّ النُّجومَ لا يُعرَفُ بها عِلمُ الغيبِ ولا قَضاءُ اللهِ سُبحانه في خَلقِه.