باب في سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه
بطاقات دعوية
حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: قال رجل لم يعمل خيرا قط: فإذا مات، فحرقوه، واذروا نصفه في البر، ونصفه في البحر فوالله لئن قدر الله عليه، ليعذبنه عذابا، لا يعذبه أحدا من العالمين فأمر الله البحر، فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ثم قال: لم فعلت قال: من خشيتك، وأنت أعلم فغفر له
ينبغي للإنسان أن يكون حاله مع الله بين الخوف والرجاء؛ فالمؤمن يخاف الله فيتقيه ويبتعد عن المعاصي، ويرجو الثواب من الله سبحانه، فيجتهد في العمل، وهو في كل أحواله يسدد ويقارب
وفي هذا الحديث يروي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من الأمم السابقة -وفي حديث حذيفة وأبي مسعود عند الطبراني في الأوسط أنه كان من بني إسرائيل- أعطاه الله ورزقه مالا وولدا، وهذا كله من أعظم النعم على أي إنسان؛ فقد أعطاه الله زينة الحياة الدنيا، التي تقتضي الشكر لله مع العمل الصالح، وأنه لما حضرته الوفاة وجاءه الموت وأيقن أنه واقع به، قال لبنيه: «أي أب كنت لكم؟» فأثنوا عليه خيرا وقالوا: نعم الأب، فأخبرهم أنه لم يبتئر -أو لم يبتئز- عند الله خيرا، أي: لم يدخر عملا صالحا يدخله الله به الجنة، وأنه إذا رجع إلى الله؛ فإنه سيعذبه بما فعل، ويحمل هذا الكلام على أنه كان موحدا، ولكنه لم يأت من شرائعه بشيء، وقد روي الحديث عند أحمد بلفظ: «كان رجل ممن كان قبلكم لم يعمل خيرا قط إلا التوحيد»، وفي حديث حذيفة رضي الله عنه عند البخاري: «إنه كان يسيء الظن بعمله»، ووقع في آخر حديث حذيفة رضي الله عنه أنه كان نباشا للقبور، أي: يسرق أكفان الموتى، فلما حضره الموت خاف تفريطه، فطلب هذا الرجل من أولاده أن يحرقوه بعد موته، ثم يسحقوه بعد أن يصير فحما فيجعلوه كالرماد، ثم ينتظروا يوما تكون فيه الريح شديدة فيلقوه فيها، فيصير رماده مع الريح، وفي رواية: «أذروني في البحر»، أي: أمر أولاده أن يضعوا هذا الرماد في البحر، وأخذ من بنيه العهد على فعل ذلك، وقد جعل الخوف هذا الرجل يفقد رشده ويظن أنه تعالى غير قادر على جمعه مرة أخرى، وقيل: إنه فعل ذلك على وجه الفرار من الله مع اعتقاده أنه غير فائت، وذلك كما يفر الرجل أمام الأسد، مع اعتقاده أنه لا يفوته سبقا، ولكنه يفعل نهاية ما يمكنه فعله، أو أنه طلب ذلك خوفا من الباري تعالى، وتحقيرا لنفسه، وعقوبة لها بعصيانها، وإسرافها، وتذللا ورجاء أن يكون هذا سببا إلى رحمته، ولعله كان مشروعا في ملته
ولذلك لما جمعه الله تعالى وقال له: «كن»، فعاد إنسانا كاملا كما كان قبل حرقه بقدرته سبحانه وتعالى، فسأله عن الذي حمله على فعل ذلك، فقال الرجل: «مخافتك أو» قال: «فرق منك»، والفرق: الخوف، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «وأنت أعلم» بقصدي من ذلك، وهذا دليل على إيمانه؛ إذ الخشية لا تكون إلا لمؤمن، بل لعالم، ويستحيل أن يخافه من لا يؤمن به، فتداركته رحمة ربه عند قوله ذلك
وفي الحديث: بيان عظيم رحمة الله سبحانه
وفيه: عدم اليأس من رحمة الله ولو عظم الذنب
وفيه: بيان إثبات البعث بعد الموت، وإن تفرقت الأجزاء وتلاشت
وفيه: بيان فضيلة الخوف من الله تعالى، وغلبتها على العبد، وأنها من مقامات الإيمان، وأركان الإسلام، وبها انتفع هذا المسرف، وحصلت له المغفرة