باب: في غزوة الأحزاب وهي الخندق 3
بطاقات دعوية
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - كانوا يقولون يوم الخندق: نحن الذين بايعوا محمدا على الإسلام ما بقينا أبدا أو قال: على الجهاد (ما بقينا أبدا) شك حماد والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إن الخير خير الآخره ... فاغفر للأنصار والمهاجره. (م 5/ 189
لم يَدَّخِرْ أصحابُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ نَفْسًا ولا مالًا في سَبيلِ إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ، ونُصرةِ دِينِه، وضَرَبوا في ذلك أروَعَ الأمثِلةِ وأعلاها.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه عن بَعضِ ما بُذِلَ في غَزوةِ الخَندَقِ، وقدْ وَقَعَتْ هذه الغَزوةُ في السَّنةِ الخامِسةِ مِنَ الهِجرةِ، وسُمِّيتْ بذلك لِأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أمَرَ بحَفْرِ خَندَقٍ حَولَ المَدينةِ؛ لِتَحصِينِها مِن أحزابِ الكُفرِ التي اجتَمَعتْ؛ بهَدَفِ إبادةِ المُسلِمينَ، والخَندَقُ: هو الحُفرةُ العَميقةُ الطَّويلةُ حَولَ شَيءٍ مُعيَّنٍ، أو في جِهةٍ مُعيَّنةٍ. وقد شارَكَ المُسلِمونَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ في حَفْرِ الخَندَقِ شَمالَ المَدينةِ، وشارَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ معهم بنَفْسِه في الحَفْرِ.
ويَحكي أنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ مَرَّ على مَن حَضَرَ مِنَ المُهاجِرينَ والأنصارِ وهُم يَحفِرونَ الخَندَقَ في صَبيحةِ يَومٍ بارِدٍ، ولم يَكُنْ لهم عَبِيدٌ يَعمَلونَ عنهم ويَكفُونَهمُ الحَفرَ، فكانوا يَحفِرونَ ويَرفَعونَ الحِجارَةَ بأنفُسِهم، فلَمَّا رَأى ما بِهم مِنَ النَّصَبِ، والتَّعَبِ، والجُوعِ؛ أرادَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ التَّخفِيفَ عنهم وحَثَّهم على الحَفرِ، وتَذكيرَهم بالأجْرِ المُترَتِّبِ على هذا الجِهادِ، فقال لهم:
«اللَّهُمَّ إنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخرهْ ... فاغفِرْ للأنصارِ والمهاجرهْ»
أي: لا عَيشَ على وَجهِ الحَقيقةِ إلَّا العَيشُ في الآخِرةِ في رِضوانِ اللهِ ورَحمتِه، ودَعا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم بالمَغفِرةِ لِلمُهاجِرينَ الذين تَرَكوا دِيارَهم وأموالَهم يَبتغونَ فَضلًا مِنَ اللهِ ورِضوانًا، والأنصارِ الذينَ آوَوُا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ والمُهاجِرينَ، ونَصَروهم، وقاسَموهم في أموالِهِم. فأجابُوه رَضيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ قائلينَ:
«نَحنُ الذين بايَعوا مُحمَّدَا ** على الجِهادِ ما بَقِينا أبَدَا»
والمُبايَعةُ هي المُعاقَدةُ والمُعاهَدةُ، وسُمِّيتْ بذلك تَشبيهًا بالمُعاوَضةِ الماليَّةِ؛ كأنَّ كُلَّ واحِدٍ منهما يَبيعُ ما عِندَه مِن صاحِبِه؛ فمِن طَرَفِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وَعْدٌ بالثَّوابِ، ومِن طَرَفِهم في هذا الحَديثِ الجِهادُ في سَبيلِ اللهِ ما داموا أحياءً قادِرينَ عليه، وصَدَقوا في بَيعَتِهم رَضيَ اللهُ عنهم أجمَعينَ، فاللَّهُمَّ اغفِرْ للأنصارِ والمُهاجِرينَ وألحِقْنا بهم مع نَبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفي الحَديثِ: بَيانُ حالِ الشِّدَّةِ والخَوفِ اللَّذَيْن كانَ فيهما المُسلِمونَ في حَفْرِ الخَندَقِ.
وفيه: بَيانُ حُسْنِ مُلاطَفةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للنَّاسِ، والتَّخفيفِ عنهم في أحْلَكِ الظُّروفِ، وهذا شَأْنُ كُلِّ داعيةٍ يُبشِّرُ ولا يُنفِّرُ.
وفيه: بَيانُ مَنقَبةِ المُهاجِرينَ والأنصارِ، حيثُ فازُوا بدَعوةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لهم بالمَغفِرةِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ إنشادِ الشِّعرِ والارتِجازِ في حالِ العَمَلِ والجِهادِ، والاستِعانةِ بذلك؛ لِتَنشيطِ النُّفوسِ، وتَسهيلِ الأعمالِ.