باب: في قوله تعالى: يلمزون المطوعين

بطاقات دعوية

باب: في قوله تعالى: يلمزون المطوعين

عن أبي مسعود - رضي الله عنه - قال أمرنا بالصدقة قال كنا نحامل (2) قال فتصدق أبو عقيل من نصف (3) صاع قال وجاء إنسان بشيء أكثر منه فقال المنافقون إن الله لغني عن صدقة هذا وما فعل هذا الآخر إلا رياء فنزلت (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم). (م 3/ 88

كان الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم سُرْعانَ ما يَسْتجيبونَ لأوامرِ اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَتكلَّفُ كلُّ فَرْدٍ منهم ما يَستطيعُ بَذْلَه وإنفاقَه.
وفي هذا الحديثِ يَروي أبو مَسْعُودٍ الأنصاريُّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا أُمِر المسلِمون بالصَّدقةِ، كأنَّه يُشيرُ إلى قولِه تعالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]، كانوا يَتَحَامَلون، أي: يتكَلَّفون الحَمْلَ على ظُهورِهم بالأُجرةِ ليكتَسِبوا ما يتصَدَّقون به، وهذا وصْفٌ لحالِهم مِن الفَقرِ والشِّدَّةِ في ذلكَ الوقتِ؛ ففي رِوايةِ النَّسائيِّ: «فما يَجِدُ أحَدُنا شَيئًا يَتصدَّقُ به حتَّى يَنطلِقَ إلى السُّوقِ، فيَحمِلَ على ظَهرِه، فيَجيءَ بالمُدِّ، فيُعطيَه رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم».
فجاء أبو عَقِيلٍ رَضيَ اللهُ عنه -وهو رجلٌ من الصَّحابةِ قيل: اسمُه الحبحابُ، أو سَهلٌ- بنِصفِ صاعٍ مِن تمْرٍ -والصَّاعُ يُساوي بالجرامِ 2036 جِرامًا في أقلِّ تَقديرٍ، وفي أعْلى تَقْديرٍ يُساوي 4288 جرامًا-، وجاء إنسانٌ آخَرُ بأكثرَ منه، فقال المنافِقون: إنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عن صَدقةِ الأَوَّلِ الفقيرِ، أمَّا الثَّاني فما تَصدَّقَ إلَّا رِياءً! وقدْ كذَبوا، بلْ كان كلُّ واحدٍ منهما مُتَطَوِّعًا، فنَزَلَ تَكذيبًا لهم قولُه تعالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ} الآيةَ، ويَلْمِزون، أي: يَعيبون. وجُهْدَهم، أي: طاقَتَهم، ومعناها: الَّذين يَعيبون المتَطَوِّعينَ الأغنياءَ مِن المؤمنينَ بِبَذْلِ الصدَقاتِ، ويَعيبُون أيضًا الَّذين لا يَجِدون إلَّا شَيئًا قليلًا هو حاصلُ ما يَقدِرون عليه، {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}، أي: فيَسْخَرون منهم قائلين: ماذا تُجدي صَدَقَتُهم؟! سَخِرَ اللهُ منهم؛ جَزاءً على سُخريتِهم بالمؤمنينَ، ولهم عذابٌ مُوجِعٌ، وهذا مِن بابِ المقابَلةِ على سُوءِ صَنيعِهم واستِهزائِهم بالمؤمنينَ؛ لأنَّ الجزاءَ مِن جِنسِ العَملِ، فعامَلَهم مُعامَلةَ مَن سَخِر منهم؛ انتصارًا للمؤمنينَ في الدُّنيا.
وفي الحَديثِ: أنَّ العبدَ يَتقرَّبُ إلى الله بِجُهدِه وطاقتِه، وبِحَسَبِ قُدرتِه واستطاعتِه.
وفيه: أنَّ مِن صِفاتِ المنافقين العَيبَ على المؤمنين ولَمْزَهم.
وفيه: الحثُّ على الصَّدقةِ بما قَلَّ وما جَلَّ.
وفيه: أنَّه يَنْبغي ألَّا يَحتقِرَ الإنسانُ ما يَتصدَّقُ به.
وفيه: ما كان عليه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم مِن التَّواضُعِ، والحِرصِ على الخَيرِ، واستعمالِهم أنفُسَهم في المِهَنِ والخدمةِ.