باب في قوله - صلى الله عليه وسلم - لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة 2
بطاقات دعوية
- عن عبد الرحمن بن شماسة المهري قال كنت عند مسلمة بن مخلد وعنده عبد الله بن عمرو بن العاص فقال عبد الله لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق هم شر من أهل الجاهلية لا يدعون الله بشيء إلا رده عليهم فبينما هم على ذلك أقبل عقبة بن عامر - رضي الله عنه - فقال له مسلمة يا عقبة اسمع ما يقول عبد الله فقال عقبة هو أعلم وأما أنا فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك فقال عبد الله أجل ثم يبعث الله ريحا كريح المسك مسها مس الحرير فلا تترك نفسا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته ثم يبقى شرار الناس عليهم تقوم الساعة. (م 6/ 54
أُمَّةُ الإسلامِ شأنُها عَظيمٌ؛ فإنَّها آخِرُ أُمَمِ الأنبياءِ في الدُّنيا، ونَبيُّها خاتَمُ الأنبياءِ، وقدْ أُرسِلَ إلى النَّاسِ كافَّةً بَشيرًا ونَذيرًا، ودَعوتُه مُمتدَّةٌ إلى آخِرِ الزَّمانِ، ومِن لَوازمِ امتدادِ دَعوتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَبْقَى الحَقُّ قائمًا في الأمَّةِ لا يَضيعُ، وذلك مِن رَحمةِ اللهِ بالأمَّةِ مِن جِهةٍ، ومِن جِهةٍ أخرى لاستمرارِ قِيامِ الحُجَّةِ على النَّاسِ.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ عبْدُ الرَّحمنِ بنُ شِمَاسةَ المَهْريُّ أنَّه كان مَوجودًا عِندَ مَسلَمةَ بنِ مُخَلَّدٍ رَضيَ اللهُ عنه، وكان واليًا على مِصرَ زَمنَ خِلافةِ مُعاويةَ بنِ أبي سُفيانَ رَضيَ اللهُ عنهما، وكان عِندَه عبدُ اللهِ بنُ عَمرِو بنِ العاصِ رَضيَ اللهُ عنهما، فقالَ عبدُ اللهِ: «لا تَقومُ السَّاعةُ إلَّا على شِرارِ الخَلْقِ، هُم شَرٌّ مِن أهْلِ الجاهِلِيَّةِ» وهي الفترةُ الَّتي كان النَّاسُ فيها على الشِّركِ قبْلَ مَجيءِ الإسْلامِ، وسُمِّيَت بها لكَثْرةِ جَهالاتِهم وضَلالاتِهم، والمعنى: أنَّ يوْمَ القيامةِ لا يَأتي إلَّا على قومٍ لا يَعرِفون اللهَ ولا يَعبُدونه، فهُم أقبَحُ حالًا وأكثرُ كُفرًا مِن أهلِ الجاهليَّةِ، «لا يَدْعُونَ اللَّهَ بشيءٍ» مِن الحوائجِ الَّتي يَحتاجون إليها «إلَّا رَدَّه عليهم» أي: لا يَستجيبُ دُعاءَهم لقُبحِ حالِهِم وسُوءِ صَنيعِهم.
ويُخبِرُ ابنُ شِماسةَ أنَّه بيْنما عبدُ اللهِ بنُ عَمرٍو ومَسْلمةُ بنُ مُخلَّدٍ كانا على هذه الحالةِ مِن مُذاكرةِ ذلك الحديثِ؛ إذ دَخَل عليهم عُقْبةُ بنُ عامِرٍ الجُهَنيُّ رَضيَ اللهُ عنه، فَقالَ له مَسْلَمةُ: «يا عُقْبَةُ، اسمَعْ ما يقولُ عبدُ اللهِ» يُريدُه أنْ يُراجِعَ عبْدَ اللهِ بنَ عمرٍو في حَديثِه الَّذي حَدَّث به؛ إمَّا بإقرارِه عليه وأنَّه أيضًا سَمِعَه مِن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أو رَدِّه عليه، كما كان عادةَ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم في الاستيثاقِ مِن أحاديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأخبَرَ عُقْبةُ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ عبْدَ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه هو أعْلَمُ منه بحَديثِه الَّذي حَدَّثه، فالصَّحابةُ جَميعًا عُدولٌ ولا يُتَّهَمون بشَيءٍ مِن الكذِبِ في حَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعبدُ اللهِ رَضيَ اللهُ عنه مِن السَّابقينَ إلى الإسلامِ وأحدُ الصَّحابةِ رَضيَ اللهُ عنهم الَّذين حَفِظوا الكثيرَ مِن سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
ثمَّ قال عُقبةُ رَضيَ اللهُ عنه: وأمَّا أنا فسَمِعْتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُخبِرُ عن هذه الأُمَّةِ أنَّها لا تَزالُ فيها طائفةٌ على الحقِّ «يُقاتِلون على أمرِ اللهِ» لأجْلِ إقامةِ دِينِ اللهِ، وهذه الطَّائفَةُ مُعانَةٌ مِنَ اللهِ مَنصورةٌ على مَن خَذَلها وحَاربَها، والهَزيمَةُ والخِذلانُ عَاقبةُ مَن حارَبَها أو عارَضَها، وقد بَشَّرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ هذه الطَّائفةَ ستَكونُ كذلِك على أمرِ اللهِ مُستمسِكين، وبه قائِمينَ حتَّى يَأتيَ أمرُ اللهِ، حتَّى تقومَ عليهم السَّاعةُ وهُم على ذلك، فوافَقَ عُقبةُ عبْدَ الله رَضيَ اللهُ عنه فيما حدَّث به، إلَّا أنَّه استَدرَكَ عليه قولَه: «ثمَّ يَبعَثُ اللهُ رِيحًا» تَهبُّ مِن اليمنِ أو الشَّامِ، رائحتُها طَيِّبةٌ كرائحةِ المِسكِ، ومَلْمَسُها لمَن تَمُرُّ على جِلدِه مِثلُ مَلْمَسِ الحريرِ، فلا تَترُكُ تلكَ الرِّيحُ نفْسًا في قَلبِه مِثقالُ حَبَّةٍ مِن الإيمانِ إلَّا أماتَتْه، فيَبْقى بذلك شِرارُ النَّاسِ، وعليهم تَقومُ القيامةُ، وهذا مِن رَحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعِبادِه المؤمِنينَ.
وقد اختُلِفَ في المقصودِ بالطَّائفةِ المنصورةِ الَّتي لا تَزالُ قائمةً بأمرِ دِينِ اللهِ، وكذلك اختُلِف في مَكانِها؛ فقيل: هُم العُلماءُ والفقهاء، وقيل: هُم أصحابُ الحديثِ، وقيل: هُم المُجاهِدُون في سَبيلِ اللهِ تَعالَى، وقد ورَدَ أنَّهم بالشَّام، وأنَّهم ببيتِ المقدسِ وأكنافِ بيتِ المقدس، وورَد أنَّ آخِرَهم بِبيتِ المقْدِسِ، والأولى الجَمْعُ بين هذه الأقوال كلِّها بأنَّ هذه الطَّائفةَ تكون مُتناثِرةً بَينَ طَوائفِ الأُمَّةِ؛ فَمنَ المُمكنِ أن يَكونوا مِنَ العُلماءِ والمُجاهِدين والفُقهاءِ والآمِرين بالمَعروفِ والنَّاهينَ عنِ المُنكرِ، وقَدْ يَكونون مُجتمِعينَ في مَكانٍ أو مُتفرِّقينَ في البُلدانِ.
والحديثُ آيةٌ على صِدقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه مُنذُ أخبَرَ بذلكَ وهذه الطَّائفَةُ لا تَزالُ مَوجودَةً في الأُمَّةِ لم تَنقَطِعْ في زَمانٍ منَ الأزمنَةِ.
وفي الحديثِ: فَضلُ الثَّباتِ على الحقِّ والعملِ به.
وفيه: فَضلُ لُزومِ هذِه الطَّائِفةِ؛ فإنَّهم مَنصورونَ مُعانونَ.