باب في نقض الكعبة وبنائها 1

بطاقات دعوية

باب في نقض الكعبة وبنائها 1

 عن عطاء قال لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم يريد أن يجرئهم أو يحربهم (1) على أهل الشام فلما صدر الناس قال يا أيها الناس أشيروا علي في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها قال ابن عباس فإني قد فرق لي (2) رأي فيها أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتا أسلم الناس عليه وأحجارا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ابن الزبير لو كان أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده (3) فكيف بيت ربكم إني مستخير ربي ثلاثا ثم عازم على أمري فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماه الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض فجعل ابن الزبير أعمدة فستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه وقال ابن الزبير إني سمعت عائشة تقول إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني (4) ليومي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمس أذرع (5) ولجعلت لها بابا يدخل الناس منه وبابا يخرجون منه قال فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس قال فزاد فيه خمس (5) أذرع من الحجر حتى أبدى أسا نظر الناس إليه فبنى عليه البناء وكان طول الكعبة ثماني عشرة ذراعا فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشر أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه والآخر يخرج منه فلما قتل ابن الزبير كتب الحجاج إلى عبد الملك بن مروان يخبره بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء (6) أما ما زاد في طوله فأقره وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه فنقضه وأعاده إلى بنائه (7). (م 4/ 98 - 99)

الكَعبةُ هي بَيتُ اللهِ الحرامُ، وقِبلةُ المُسلِمينَ، وهي أوَّلُ بَيتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ، وقدْ بَناها إبراهيمُ وإسماعيلُ عليهما السَّلامُ بأَمْرٍ مِنَ اللهِ تعالَى، وقدْ هُدِمَتْ وبُنِيَتْ أكثرَ مِن مرَّةٍ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي عَطاءُ بنُ أَبي رَباحٍ أنَّه لمَّا احترَقَ البيتُ الحَرامُ، وقدْ أُحرِقَ حِين حاصَرَ الحُصينُ بنُ نُمَيرٍ السَّكونيُّ عبْدَ اللهِ بنَ الزُّبيرِ رَضِي اللهُ عنهما في مكَّةَ بعْدَ وَقعةِ الحَرَّةِ بالمدينةِ سَنةَ ثلاثٍ وسِتِّينَ مِن الهجرةِ، بأمرِ يَزيدَ بنِ مُعاويةَ، وكان خَليفةً على الشَّامِ، وكان ابنُ الزُّبيرِ رَضِي اللهُ عنهما يُنازِعُه أمْرَ الخلافةِ حِينَها، فلمَّا قام أهلُ الشَّامِ بِدُخولِ البيتِ الحرامِ؛ لقِتالِ عبْدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ واحْتَرَقَتِ الكعبةُ، ومال جِدارُها مِن رَمْيِ المَنْجَنيقِ، وهو آلةٌ تُرْمى بها الحِجارةُ، وكان ذلك الحَرقُ والهدْمُ الَّذي حَصَلَ للكعبةِ غيْرَ مَقصودٍ لها، بلْ كان المقصودُ حِصارَ ابنِ الزُّبَيْرِ، فالضَّرْبُ بالمَنْجَنيقِ كان له لا للكَعبةِ.
وفي أثناءِ الحصارِ جاء خبرُ مَوتِ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ سَنةَ أربعٍ وسِتِّينَ مِن الهجرةِ، فرجَعَ جَيشُ الشَّامِ إلى بِلادِه، وقام ابنُ الزُّبيرِ ثمَّ دعا إلى نفْسِه، فبُويِعَ بالخلافةِ، وأطاعَهُ أهلُ الحجازِ، ومِصرَ، والعراقِ، وخُراسانَ، وبعْدَ رُجوعِ جَيشِ الشَّامِ، تَرَكَ عبْدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ رَضِي اللهُ عنهما البيتَ على حالِهِ مِن التَّهدُّمِ، حتَّى جاء النَّاسُ مِن كلِّ الأقطارِ إلى مَوْسِمِ الحجِّ، واجتَمَعوا فيه، وكان ابنُ الزُّبيرِ رَضِي اللهُ عنهما يُريدُ «أنْ يُجَرِّئَهُمْ»، أي: يُشجِّعَهم على قِتالِ أهلِ الشَّامِ، «أو يُحَرِّبَهم»، أي: يُحرِّكَ الغَيْظَ في قُلوبِهم بِما يَرَوْنَهُ مِن حَرقِ البيتِ، فيُقاتِلوا أهلَ الشَّامِ، فلمَّا رجَعَ النَّاسُ إلى بُلدانِهم بعْدَ انقضاءِ أعمالِ الحجِّ، قال ابنُ الزُّبيرِ رَضِي اللهُ عنهما لأهلِ مكَّةَ أو الكُبراءِ منهم: «يا أيُّها النَّاسُ، أَشيروا علَيَّ في الكعبةِ»، أي: أعْطُوني رأْيَكم، هل أَهدِمُها، ثمَّ أُعيدُ بِناءَها مِن جديدٍ، أو أُصْلِحُ ما ضعُفَ وتَهدَّم منها؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللهُ عنهما: «فإنِّي قدْ فُرِقَ لي رأْيٌ فيها»، أي: كُشِفَ لي رأيٌ، واتَّضَحَ، وهو أنْ تُصْلِحَ ما ضعُفَ وتَهدَّمَ منها، فتُرجِعَه إلى ما كان عليه مِن هَيئةٍ، وتَترُكَ الكعبةَ على هَيْئَتِهِا الَّتي عَهِدها النَّاسُ حِين أسْلَموا، «وأحْجارًا أسْلَمَ النَّاسُ عليها» يعني أحجارَ الكعبةِ مِن غيرِ تَبديلٍ، وَبُعِثَ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فلم يُغيِّرْها، فقال ابنُ الزُّبيرِ: «لوْ كان أحدُكم احترَقَ بَيتُهُ»، أي: أصابَهُ الحَريقُ، «ما رَضِيَ»، أي: صاحبُ البيتِ المُحْتَرِقِ، حتَّى يَجعَلَهُ جَديدًا، «فكيْف بَيتُ رَبِّكم؟!»، يعني أنَّ بَيتَ اللهِ تعالَى أوْلَى بالإصلاحِ والتَّجديدِ، ثمَّ قال لهم: «إنِّي مُستَخيرٌ ربِّي ثَلاثًا»، أي: أُصلِّي صَلاةَ الاستخارةِ، وأطلُبُ مِنَ اللهِ الخيرَ والعَوْنَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ أو ثلاثةَ أيَّامٍ، ثمَّ أُجْمِعُ أَمْري، فلمَّا انْتَهَت الثَّلاثةُ أيَّامٍ، بانَ له أنْ يَهدِمَها، ويُعيدَ بِناءَها، وعزَمَ على ذلك، فتَجنَّبَه النَّاسُ وبَعُدوا عنه؛ خَشْيَةَ أنْ يَنزِلَ عِقابٌ بأوَّلِ مَن يَطْلُعُ إلى البيتِ يُريدُ هَدْمَه، مِثلَما حدَثَ لأصحابِ الفيلِ، وظَلُّوا كذلك حتَّى ارْتَقَى رجُلٌ منهم الكعبةَ، وبدَأ بِنَقْضِ الحِجارةِ، فلمَّا رَأى النَّاسُ أنَّه لم يُصِبْهُ شَيءٌ مِنَ العِقابِ، تَتابَعوا وَأَقْبَلوا نَحْوَ البيتِ في إِثْرِ بعضٍ دونَ فَصْلٍ، فهَدَموه وأزالوا حِجارتَه، حتَّى ساوَوْهُ بالأرضِ، «فجَعَل ابنُ الزُّبيرِ أعمِدةً، فَسَتَرَ عليها السُّتورَ، حتَّى ارْتَفَعَ بِناؤُهُ»، والمقصودُ بهذه الأعمدةِ والسُّتورِ أنْ تَكونَ قِبلةً للمُصلِّينَ، وأنْ يَعرِفوا مِن خِلالِها مَوْضِعَ الكعبةِ، ولم تَزَلْ تِلك السُّتورُ حتَّى ارتَفَعَ البِناءُ، وصار مُشاهَدًا لِلنَّاسِ، فأزالها؛ لحُصولِ المقصودِ بالبِناءِ المُرتفِعِ مِنَ الكعبةِ.
ثمَّ ذَكَرَ ابنُ الزُّبيرِ رَضِي اللهُ عنهما حَديثًا سَمِعه مِن خالتِهِ عائشةَ رَضِي اللهُ عنها، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: «لوْلا أنَّ النَّاسَ حَديثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْرٍ»، أي: أنَّهم قَريبو العهدِ بالإسلامِ، والخروجِ مِنَ الكفرِ إلى الإسلامِ، «وليْس عِندي مِنَ النَّفقةِ»، أي: لسْتُ أَملِكُ أنْ أُنفِقَ مِنَ الأموالِ، ما يَجعَلُني قَويًّا وقادرا على بِنائِهِ، لَكُنْتُ أدخَلْتُ في البيتِ «مِنَ الحِجْرِ» وهو البِناءُ الدَّائريُّ الَّذي حَولَ الكَعبةِ مِنَ النَّاحيةِ المُقابِلةِ للحجَرِ الأسوَدِ والرُّكنِ اليَمانيِ، وهو على شَكلِ نِصفِ دائرةٍ يُلاصِقُ الرُّكنينِ الشاميَّ والعِراقيَّ، وهذا الحِجرُ جُزءٌ مِن الكعبةِ «خَمْسَ أَذْرُعٍ»، وفي رِوايةٍ أُخرى عندَ مُسلمٍ بلفظِ: «وزِدتُ فيها سِتَّةَ أذرُعٍ مِن الحِجرِ»؛ وسَببُ ذلك أنَّ قُريشًا لمَّا قَصُرَتْ بهم النَّفقةُ، وكانت لا تَكْفي لِبِناءِ الكعبةِ، بَنَوْا على قدْرِ نَفَقتِهم، وجعَلوا الباقيَ خارجًا، وَسَمَّوْهُ حِجْرًا، فأرادَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنْ يُدْخِلَهُ ضِمْنَ البيتِ، ثمَّ قال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «وَلَجَعَلْتُ لها بابًا يَدخُلُ النَّاسُ منه» وهو البابُ الشَّرقيُّ، «وبابًا يَخرُجون منه» وهو البابُ الغَربيُّ، فَتَرَكَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم نَقْضَ الكعبةِ وإدخالَ الحِجْرِ فيها؛ خَشيةَ وُقوعِ الفِتنةِ، فأبْقاها على ما هي عليه، فقال ابنُ الزُّبيرِ بعْدَ أنْ رَوى الحديثَ: «فأنا اليومَ أجِدُ ما أُنفِقُ»، فعِندي مِنَ الأموالِ والنَّفقةِ ما يَفِي بذلك، ولسْتُ أخاف على النَّاسِ مِنَ الفِتنةِ؛ لتَمكُّنِ الإيمانِ في قُلوبِهم، فزاد في البيتِ الحرامِ وأدخَلَ فيه خَمْسَ أَذْرُعٍ مِنَ الحِجْرِ، وحَفَر مِن أرضِ الحِجْرِ تلك المسافةَ إلى أنْ بَلَغ أساسَ البيتِ الَّذي أَسَّسَ عليه إبراهيمُ عليه السَّلامُ، حتَّى رَأى النَّاسُ أساسَهُ، ونَظَروا إليه، فَبَنَى ابنُ الزُّبيرِ عليه البِناءَ، «وكان طُولُ الكعبةِ ثَمانِيَ عَشْرَةَ ذِراعًا، فلمَّا زاد فيه اسْتَقْصَرَهُ»، أي: عَدَّه قصيرًا، فزادَ ابنُ الزُّبيرِ في طُولِهِ عَشْرَ أَذْرُعٍ، والذِّراعُ (69) سم تَقريبًا، «وجَعَلَ له بابَيْنِ: أحدُهما يُدخَلُ منه، والآخَرُ يُخرَجُ منه»، فجعَلَ ابنُ الزُّبيرِ الكعبةَ على الرَّسمِ الَّذي أرادهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
فلمَّا قُتِلَ ابنُ الزَّبيرِ في ذي الحِجَّةِ سَنةَ ثَلاثٍ وسَبعينَ مِن الهجرةِ، واستَقرَّتِ الخِلافةُ لِبني أُمَيَّةَ، أَرْسَلَ الحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ الثَّقفيُّ إلى عبْدِ الملِكِ بنِ مَرْوانَ -وكان الخليفةَ في الشَّامِ- يُخبِرُه «أنَّ ابنَ الزُّبيرِ قدْ وَضَعَ البِناءَ على أُسٍّ»، أي: على أساسِ إبراهيمَ الَّذي أظهَرَه حِين حُفِرَ الحِجرُ، «نَظَرَ إليه»، أي: شاهَدَ هذا الأساسَ ورآهُ «العُدولُ» وهمْ مَن تُقبَلُ شَهادتُهم، «مِن أهلِ مَكَّةَ»، فهلْ يَترُكُه على بناءِ ابنِ الزُّبيرِ أمْ يَهدِمُه ويُعيدُ بِنائهِ على شَكلِه القديمِ؟ فأرسَلَ عبدُ الملِكِ إلى الحَجَّاجِ: «إنَّا لَسْنَا مِن تَلْطيخِ ابنِ الزُّبيرِ في شَيءٍ»، أي: إنَّا لسْنا في شَيءٍ مِن المُؤاخَذةِ بما اقتَرَفه واجتَرَمه ابنُ الزُّبيرِ مِن هدْمِ الكعبةِ؛ يَعني إنَّا بُرآءُ ممَّا تَلطَّخَه مِن جَريمةِ هدْمِ البيتِ، «أمَّا ما زاد في طُولِهِ فأقِرَّهُ»، أي: فَأَبْقِهِ على ما هو عليه، «وأمَّا ما زاد فيه مِنَ الحِجْرِ فَرُدَّهُ إلى بِنائِهِ»، أي: فاهدِمْهُ، وأَعِدْهُ إلى بِنائِهِ الأوَّلِ كما كان على عهْدِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، «وسُدَّ البابَ الَّذي فَتَحَهُ» وهو البابُ الثَّاني الَّذي زادهُ ابنُ الزُّبيرِ، فهَدَم الحجَّاجُ البيتَ، وأعادهُ إلى بِنائِهِ الأوَّلِ.
وفي الحَديثِ: أهمِّيَّةُ استشارةِ أُولِي الرَّأْيِ والخِبرةِ.
وفيه: إصلاحُ ما تَلِف مِن البيتِ الحرامِ.
وفيه: ترْكُ المُستحَبِّ والمشروعِ مَخافةَ أنْ يَقصُرَ فَهْمُ بعضِ النَّاسِ عنه.
وفيه: ترْكُ المصلحةِ؛ لأمنِ الوقوعِ في المَفسدةِ.
وفيه: تألُّفُ قُلوبِ الرَّعيةِ، وحُسنُ حِياطتِهم.
وفيه: حِرصُ الصَّحابةِ على امتثالِ ما يُريدُه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم.
وفيه: الاستخارةُ في الأمورِ الهامَّةِ.