باب قتل حمزة 2
بطاقات دعوية
عن عبد الله بن عمر قال: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين (49)! قتله العبد الأسود!
حَمْزةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه عمُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأخوهُ مِن الرَّضاعةِ، وأسَدُ اللهِ وأسَدُ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وسيِّدُ الشُّهَداءِ، قُتِلَ يومَ أُحُدٍ، وتأثَّرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بمَقْتَلِه تَأثُّرًا شَديدًا؛ لمَكانِه منه، وكان وَحْشيُّ بنُ حَربٍ هو قاتِلَه، وذلك قبْلَ إسْلامِه، وكان حينَئذٍ عبدًا مَملوكًا.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ وَحْشيُّ بنُ حَربٍ الحَبَشيُّ رَضيَ اللهُ عنه مَوْلى جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ عن قَتْلِه لحَمْزةَ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه، لَمَّا سَألَه عن ذلك جَعفَرُ بنُ عَمْرٍو وعُبَيدُ اللهِ بنُ عَديٍّ، عندَما سافَرَا إلى حِمْصَ، وهي حاليًّا مَدينةٌ بسُوريا، تقَعُ على الضِّفَّةِ الشَّرقيَّةِ لنَهرِ العاصي، على بُعدِ حَوالَيْ (162 كم) مِن شَمالِ العاصِمةِ دِمَشقَ، وكان وَحْشيٌّ يَسكُنُ هناك، فوَجَدوه جالِسًا في ظِلِّ قَصرِه كأنَّه حَمِيتٌ، والحَميتُ: إناءٌ كَبيرٌ للسَّمْنِ يُشَبَّهُ به الرَّجلُ السَّمينُ، فجاء الاثْنانِ حتَّى وَقَفا قَريبًا منه، وألْقَيا عليه السَّلامَ، فرَدَّ السَّلامَ عليهما، وكان عُبَيدُ اللهِ بنُ عَديٍّ مُعتَجِرًا بعِمامَتِه، أي: يَلُفُّ عِمامَتَه على رأْسِه دونَ أنْ يُديرَها مِن تَحتِ حَنَكِه، وكان وَحْشيٌّ لا يَرى منه إلَّا عَينَيْه ورِجْلَيه، فقال له عُبَيدُ اللهِ: أتَعرِفُني؟ فقال وَحْشيٌّ: «لا واللهِ» يُقسِمُ أنَّه لا يَعرِفُه تَحْديدًا على وَجهِ الدِّقَّةِ، «إلَّا أنِّي أعلَمُ أنَّ عَديَّ بنَ الخِيارِ» وهو أبو عُبَيدِ اللهِ، «تزوَّجَ امْرأةً يُقالُ لها: أُمُّ قِتالٍ بِنتُ أبي العِيصِ» وكان ذلك في الجاهِليَّةِ قبْلَ الإسْلامِ، فولَدَتْ له غُلامًا بمَكَّةَ، فكُنْتُ أطلُبُ له مَن يُرْضِعُه، «فحَمَلْتُ ذلك الغُلامَ» وهو عُبَيدُ اللهِ بنُ عَديٍّ «معَ أُمِّه فناوَلْتُها إيَّاه»، وهذا يدُلُّ على أنَّ وَحْشيًّا رَأى الطِّفلَ الغُلامَ، وعرَف صِفاتِه؛ ولذلك قال له: «فلَكَأنِّي نَظَرتُ إلى قدَمَيْكَ»، يَعني: أنَّه شبَّهَ قدَمَيْه بقَدَمَيِ الغُلامِ الَّذي حمَلَه، وقدْ كانوا في الجاهِليَّةِ مَشْهورينَ بالقِيافةِ؛ لتَحْديدِ صِفاتِ كلِّ مَن رأَوْه، ومَعرِفةِ مَدى الشَّبَهِ بيْنه وبيْنَ والِدَيْه، فكان تَفرُّسُ وَحْشيٍّ في مَعرِفَتِه صَحيحًا، وعندَ ذلك كشَفَ عُبَيدُ اللهِ بنُ عَديٍّ عن وَجْهِه، وسَألَ وَحْشيًّا عن قَتلِ حَمْزةَ رَضيَ اللهُ عنه، وعن أسْبابِه وكَيفيَّتِه، فقَصَّ له وَحْشيٌّ القِصَّةَ؛ وهي أنَّ حَمْزةَ رَضيَ اللهُ عنه كان قدْ قَتَل طُعَيْمةَ بنَ عَديٍّ في غَزْوةَ بَدرٍ، والَّتي كانت في العامِ الثَّاني مِن الهِجْرةِ، فعرَض مالِكُ وَحْشيٍّ -وهو جُبَيرُ بنُ مُطعِمِ بنِ عَديٍّ- عليه الحُرِّيَّةَ مُقابِلَ قَتْلِه لحَمْزةَ رَضيَ اللهُ عنه ثَأرًا وانْتِقامًا لعَمِّه، فلمَّا خَرَج المُشرِكونَ يومَ أُحُدٍ عامَ عَينَيْنِ، في العامِ الثَّالِثِ مِن هِجْرةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ -وعَينَيْنِ هو جَبلٌ بحِيالِ أُحُدٍ، أي: مِن ناحِيَتِه- خرَج وَحْشيٌّ معهم، فلمَّا اصْطَفَّ المُسلِمونَ والمُشرِكونَ للقِتالِ، خرَج سِباعٌ -وهو رَجلٌ منَ المُشرِكينَ- وطلَب المُبارَزةَ، وهي الخُروجُ مِن الصَّفِّ للقِتالِ على انْفِرادٍ قبْلَ الْتِقاءِ الجَيشَيْنِ، فخرَج له حَمْزةُ رَضيَ اللهُ عنه مِن صُفوفِ المُسلِمينَ ليُقاتِلَه، وقال له: يا سِباعُ، يا ابنَ أُمِّ أنْمارٍ مُقَطِّعةِ البُظورِ، وكانت أُمُّ سِباعٍ تَختِنُ النِّساءَ، والبَظْرُ هو اللَّحْمةُ الَّتي تُقطَعُ مِن فَرْجِ المَرْأةِ في الخِتانِ، وقال له حَمْزةُ رَضيَ اللهُ عنه مُستَنكِرًا: أتُعادي اللهَ ورَسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟! ثمَّ شدَّ عليه حَمْزةُ رَضيَ اللهُ عنه، أي: حمَل عليه في ضَرَباتِه وقِتالِه، فقتَلَه، فكان كأمْسِ الذَّاهِبِ، أي: كان كالعَدَمِ. ثمَّ قال وَحْشيٌّ: وكَمَنتُ -أيِ اخْتَبأْتُ- لحَمْزةَ رَضيَ اللهُ عنه تحْتَ صَخْرةٍ، فلمَّا اقترَبَ منه حَمْزةُ رَماه بحَرْبَتِه، فوقَعَتِ الحَرْبةُ في ثُنَّتِه، أي: في العانةِ، أو ما بيْنَ السُّرَّةِ والعانةِ، فخرَجَت بيْنَ وَرِكَيْه، ومات منها حَمْزةُ بنُ عبدِ المُطَّلِبِ رَضيَ اللهُ عنه، وقد حرَّرَه سيِّدُه حقًّا كما وعَدَه، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قدْ حَزِن لاستِشْهادِ حَمزةَ أشدَّ الحُزنِ، ثُمَّ خرَج وَحْشيٌّ بعْدَ فَتحِ مكَّةَ، وانْتِشارِ الإسْلامِ إلى الطَّائِفِ هرَبًا مِن المُسلِمينَ، والطَّائفُ حاليًّا: مَدينةٌ سُعوديَّةٌ تقَعُ في مِنطَقةِ مكَّةَ المُكرَّمةِ غَربَ السُّعوديَّةِ على المُنحَدَراتِ الشَّرقيَّةِ لجِبالِ السَّرَواتِ، فلمَّا أرادَ أهلُ الطَّائِفِ أنْ يُرْسِلوا إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ رَسولًا، قال بعضُ النَّاسِ لوَحْشيٍّ: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لا يَهيجُ الرُّسلَ، أي: لا يُؤْذي الرُّسلَ، ولا يُصيبُها عندَه مَكْروهٌ، فاذهَبْ معَهم إليه؛ فإنَّ محمَّدًا لا يَأْتيه أحَدٌ بشَهادةِ الحقِّ إلَّا خلَّى عنه، فذَهَب وَحْشيٌّ مع وَفدِ الطَّائفِ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وشَهِدَ بيْن يَدَيهِ بشَهادةِ الحقِّ وأسلَمَ، فلمَّا رآهُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وعَلِم أنَّه وَحْشيٌّ قاتِلُ عمِّه حَمْزةَ رَضيَ اللهُ عنه، قال له: هلْ تَستَطيعُ أنْ تُغيِّبَ وَجهَكَ عنِّي؟ فكان وَحْشيٌّ يَتَّقي أنْ يَراهُ، فما رَآه حتَّى مات.
ثمَّ أخبَرَ وَحْشيٌّ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لمَّا مات النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وادَّعى مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ النُّبوَّةَ، وأرسَلَ أبو بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه الجُيوشَ لقَتلِه؛ خرَج معَهم وَحْشيٌّ، وقال لنَفْسِه: لأَخرُجَنَّ إلى مُسَيْلِمةَ لعَلِّي أقتُلُه، فيكونُ قَتلُ مُسَيْلِمةَ مُكفِّرًا لقَتلِ حَمْزةَ رَضيَ اللهُ عنه؛ لأنَّ مُسَيْلِمةَ كان شرَّ النَّاسِ، وكان حَمْزةُ رَضيَ اللهُ عنه مِن خَيرِ أصْحابِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكان هذا في مَوقِعةِ اليَمامةِ في العامِ الحاديَ عشَرَ مِن الهِجْرةِ في خِلافةِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنه، وفي أثْناءِ المَعرَكةِ رَأى وَحْشيٌّ رَضيَ اللهُ عنه مُسَيْلِمةَ الكذَّابَ واقِفًا في فَتْحةٍ كانت بجِدارٍ، كأنَّه جَملٌ أوْرَقُ -أي أسْمَرُ- وشَعْرُه مُنتَشِرٌ مُتفرِّقٌ، فضرَبَه وَحْشيٌّ بالحَرْبةِ، فوقَعَتْ في صَدرِه، وخرَجَتْ مِن بيْنِ كَتِفَيْه، فوثَبَ إليه رَجلٌ مِنَ الأنْصارِ بعْدَ إصابَتِه فضرَبَه بالسَّيفِ على هامَتِه، أي: على رَأسِه، فرَأتْه جاريةٌ على ظَهرِ بَيتٍ، فقالت تَندُبُ مُسَيْلِمةَ الكذَّابَ: وا أميرَ المؤمِنينَ! قتَلَه العَبدُ الأسْوَدُ، وقدْ كان مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ يُسمَّى تارةً بالنَّبيِّ، وتارةً بأميرِ المؤمِنينَ، وسَمَّتِ الجاريةُ أتْباعَه بالمؤمِنينَ؛ لأنَّهم آمَنوا بادِّعائِه النُّبوَّةَ.
وفي الحَديثِ: أنَّ الإسْلامَ يَهدِمُ ما قبْلَه.
وفيه: ما كان عليه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن الرِّفقِ.
وفيه: أنَّ المَعْصيةَ تُذهِبُها الطَّاعةُ.