باب: قصة الحديبية وصلح النبي - صلى الله عليه وسلم - مع قريش 2
بطاقات دعوية
عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال لما نزلت (إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله) إلى قوله (فوزا عظيما) مرجعه من الحديبية وهم يخالطهم الحزن والكآبة وقد نحر الهدي بالحديبية فقال لقد أنزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا. (م 5/ 176)
كانَ صُلحُ الحُديْبيَةِ فَتْحًا مِن اللهِ لرَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّ على أثَرِه فُتِحَت مكَّةُ، كما وقَعَتْ فيه أحكامٌ مِن التَّيسيرِ على المُسلِمين والرَّأفةِ بهم.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي أَنَسُ بنُ مالِكٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه لَمَّا نزَلَ قولُ اللهِ تعالَى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1 - 3]، في تلكَ الآياتِ يُبشِّرُ اللهُ تعالَى نَبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّه فَتَح له فتْحًا مُبينًا بصُلحِ الحُدَيبيةِ، وهذا فيه مُؤانَسةٌ للمُؤمنينَ؛ لأنَّهم كانوا استَوحَشُوا مِن رَدِّ قُرَيشٍ لهم، ومِن مُهادَنةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فكانت هذه البُشرى مُذهِبةً لِما كان في قُلوبِهم؛ فقدْ حَصَلَ بسَبَبِ هذا الفتحِ خَيرٌ جَزِيلٌ، وآمَنَ النَّاسُ واجْتَمَعَ بَعْضُهم ببَعضٍ، وتكَلَّمَ المُؤمِنُ مع الكافِرِ، وانتَشَرَ العِلمُ النَّافعُ والإيمانُ.
واللهُ سُبحانه يقولُ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا * لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 4 - 5]، أي: إنَّ اللهَ هو الَّذي أنزَلَ السَّكِينةَ -وهي الثَّباتُ والطَّمأنينةُ والوَقارُ- في قُلوبِ المؤمنينَ، وهذا بتَسكينِ قُلوبِهم وقَبولِها لتلكَ الهُدنةِ مع قُرَيشٍ حتَّى اطْمأنُّوا وعَلِموا أنَّ وعْدَ اللهِ على لِسانِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حقٌّ؛ لِيَزدادوا إيمانًا ويَقينًا على إيمانِهم الأوَّلِ، ويَكثُرَ تَصديقُهم، وللهِ وَحْدَه جُنودُ السَّمواتِ والأرضِ، يُؤيِّدُ بها مَن يَشاءُ مِن عِبادِه، ولوْ أراد نَصْرَ دِينِه بغَيرِكم لَفَعَل، وقدْ شَرَع اللهُ لعِبادِه المؤمنينَ الجهادَ؛ لِما له في ذلك مِن الحكمةِ البالغةِ، والحُجَّةِ القاطعةِ، ولهذا قال جَلَّت عظَمتُه: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا}، عليمًا بخَلقِه وبمَصالحِ عِبادِه، حَكيمًا في صُنعِه وفيما يُجْرِيه في خَلقِه.
وكان نُزولُ هذه الآياتِ في أثناءِ رُجوعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الحُدَيْبِيَةِ في السَّنةِ السَّادسةِ مِن الهجرةِ، وكان الصَّحابَةُ يُخالِطُهم الحُزنُ وتغيُّرُ النَّفْسِ بالانكِسارِ مِن شِدَّةِ الهَمِّ والحُزنِ؛ لصَدِّهم عن المسجِدِ الحرامِ ومَنعِهم مِن إتمامِ العُمرةِ، ولِما وقَعَ عليه الصُّلحُ مِن شُروطٍ ظاهِرُها ضَعفُ المسْلِمين.
وقدْ نَحَر صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وذَبَح الهَدْيَ في الحُدَيْبِيَةِ للتَّحلُّلِ مِن عُمرتِهم بسَببِ هذا الإحصارِ والمنعِ مِن دُخولِ مكَّةَ، والهَديُ هو كلُّ ما يُهْدَى إلى البَيتِ مِن الإبلِ والبقَرِ والغَنمِ؛ قُربةً إلى الله، وكان ذلك قَبْلَ أن يَحْلِقَ، وأمَرَ أصحابَه بذلك، ثُمَّ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لقد أُنْزِلَتْ عليَّ آيةٌ هي أَحَبُّ إليَّ مِنَ الدُّنيا جميعًا؛ لِما اشتَمَلَت مِن الإعلامِ بالفتحِ، كما تَضمَّنَت البِشارةُ المغفرةَ العامَّةَ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وإتمامَ نِعمةِ اللهِ عليه ونَصْرَه نصْرًا عَزيزًا، وكلُّ ذلك فيه بِشارةٌ مُوجِبةٌ للفرَحِ.
وفي الحديثِ: بيانُ سببِ نُزولِ أوائلِ سُورةِ الفَتْحِ.
وفيه: أنَّ مِن هدْيِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إقامةَ الهُدنةِ أو الصُّلحِ بيْن المسلِمين وغيرِهم.