باب قول النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة
بطاقات دعوية
عن جرير بن عبد الله قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على [شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، و3/ 27] إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، [والسمع والطاعة، فلقنني: فيما استطعت 8/ 122]، والنصح لكل مسلم. (وفي طريق أخرى عن زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبد الله يقول يوم مات المغيرة بن شعبة، قام فحمد الله وأثنى عليه وقال: عليكم باتقاء الله وحده لا شريك له، والوقار والسكينة حتى يأتيكم أمير، فإنما يأتيكم الآن. ثم قال: استعفوا لأميركم؛ فإنه كان يحب العفو. ثم قال: أما بعد فإني أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، قلت: أبايعك على الإسلام، فشرط علي: "والنصح لكل مسلم". فبايعته على هذا، ورب هذا المسجد! إني لناصح لكم. ثم استغفر ونزل).
لِعِظَمِ مَقامِ النُّصح وشَرَفِ مَنزلتِه ومَرتبتِه
كان رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَشترِطُه على مَن جاء يُبايعُه على الإسلامِ مِن الصَّحابةِ الكرامِ،
فها هو جَريرُ بنُ عبدِ الله رَضيَ اللهُ عنه يومَ مات المُغيرةُ بنُ شُعبةَ رَضيَ اللهُ عنه -وكان مَوتُه في سَنةِ خَمسينَ مِن الهِجرةِ، وكان واليًا على الكوفةِ في خِلافةِ مُعاويةَ رَضيَ اللهُ عنه- واستَنابَ عندَ مَوتِه ابنَه عُروةَ، وقيل: استنابَ جَريرَ بنَ عبدِ اللهِ، ولذا قام وخَطَبَ هذه الخُطبةَ بعدَ مَوتِ المُغيرةِ، فحمِدَ اللهَ وأثْنى عليه، وقال: «عليكم باتِّقاءِ اللهَ وحْدَه لا شَريكَ له، والوَقارِ، والسَّكينةِ»، فأمَرَهم بهذه الأُمورِ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ وَفاةَ الأُمراءِ تُؤدِّي إلى الاضطرابِ والفِتنةِ، لا سيَّما ما كان عليه أهلُ الكوفةِ إذ ذاك مِن مُخالفةِ وُلاةِ الأُمورِ، ثمَّ حثَّهم على الْتزامِ الوَقارِ -وهو الرَّزانةُ والحِكمةُ والتَّعقُّلُ- حتَّى يَأتيَهم أميرٌ بدَلَ أميرِهم المُغيرةِ المُتوفَّى. وقولُه: «الآنَ» أراد به تَقريبَ المدَّةِ تَسهيلًا عليهم، وكان كذلك؛ لأنَّ مُعاوِيةَ رَضيَ اللهُ عنه لمَّا بَلَغَه مَوتُ المُغيرةِ، كَتَبَ إلى نائبِه على البصرةِ -وهو زِيادُ بنُ أبي سُفيانَ- أنْ يَسيرَ إلى الكوفةِ أميرًا عليها.ثمَّ قال لهم جَريرٌ: استَعفُوا لأميرِكم، أي: اطلُبوا له العفوَ مِن اللهِ تعالى؛ فإنَّه كان يُحِبُّ العفوَ عن ذُنوبِ النَّاسِ؛ فالجزاءُ مِن جِنسِ العملِ. وفي روايةٍ لأحمَدَ: «استَغفِروا»، أي: فاسْأَلوا اللهَ أنْ يَغفِرَ له، ثمَّ حَكَى جَريرٌ رَضيَ اللهُ عنه قصَّةَ مُبايعتِه النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال: «أمَّا بعدُ» وهي كَلمةٌ يُفصَلُ بها بيْن الكلامينِ عندَ إرادةِ الانتقالِ مِن كَلامٍ إلى غيرِه، والمعنى: أقولُ بعدَ ما تَقدَّمَ مِن التَّشهُّدِ والثَّناءِ على اللهِ سُبحانه وتعالَى، «فإنِّي أتَيتُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقلْتُ له: يا رسولَ اللهِ، أُبايِعُك على الإسلامِ» والمُبايَعةُ هي المعاقَدةُ والمعاهَدةِ، وسُمِّيت بذلك تَشبيهًا بالمُعاوَضةِ الماليَّةِ؛ كأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يَبيعُ ما عنده مِن صاحبِه، فشرَطَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عليه النَّصيحةَ لكلِّ مُسلمٍ ومُسلمةٍ، وذلك بالحرصِ على مَنفعتِهما، وإيصالِ الخيرِ إليهما، ودفْعِ الشَّرِّ عنهما بالقولِ والفعلِ معًا، والتَّقييدُ بالمسلمِ للأغلبِ، وإلَّا فالنُّصحُ للكافرِ مُعتبَرٌ؛ بأنْ يُدعَى إلى الإسلامِ، ويُشارَ عليه بالصَّوابِ إذا استشار، فبايَعَ جَريرٌ على هذا. ثمَّ حلَفَ لهم جَريرٌ بقَولِه: ورَبِّ هذا المسجدِ، إنِّي لَناصحٌ لكم،
وفيه إشارةٌ إلى أنَّه وفَّى بما بايَعَ عليه الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فنَصَحَهم بما فيه خَيرُهم، وأنَّ كَلامَه خالصٌ عن الغرَضِ والطَّمعِ.ثمَّ ختَمَ خُطبتَه فاستَغْفرَ اللهَ ونزَلَ، وهذا مُشعِرٌ بأنَّه خَطَبَ على المِنبرِ، أو المرادُ أنَّه قَعَدَ؛
لأنَّه في مُقابَلةِ قولِه: «قام فحَمِدَ اللهَ تعالَى».
وفي الحديثِ: وُجوبُ النُّصحِ للمُسلِمينَ.
وفيه: وَعْظُ العالِمِ للنَّاسِ إذا رَأى أمرًا يَخشَى منه الفِتنةَ عليهم، وتَرغيبُه في الأُلفةِ وترْكِ الفُرقةِ.