باب قوله: {أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات}
بطاقات دعوية
عن عبيد بن عمير قال: قال عمر - رضى الله عنه - يوما لأصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم: فيم ترون هذه الآية نزلت: (أيود أحدكم أن تكون له جنة)؟ قالوا: الله أعلم. فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: فى نفسى منها شىء يا أمير المؤمنين! قال عمر: يا ابن أخى! قل ولا تحقر نفسك. قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أى عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل غنى يعمل بطاعة الله عز وجل، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصى حتى أغرق (24) أعماله.
ضَرَبَ اللهُ الأمثالَ لِلنَّاسِ في كِتابِه العزيزِ؛ لإعمالِ الفِكرِ، وبَيانِ المرادِ بصُورةٍ يُدرِكُها كلُّ أحدٍ.
وفي هذا الحديثِ بَيانٌ لمَثَلٍ مِنَ الأمثالِ الَّتي ذُكِرَتْ في القُرآنِ الكريمِ، وهو الوارِدُ في قَولِه تعالَى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266]، والآيةُ تُصوِّرُ رجُلًا كانتْ له جَنَّةٌ مُثْمرةٌ مِن نَخيلٍ وأعنابٍ، وقدْ كَبِرَ هذا الرَّجُلُ في السِّنِّ، وكان أولادُه صِغارًا لا قُدرةَ لهم على الكَسبِ، فأصابَ هذه الجنَّةَ رِيحٌ عاصفةٌ فيها نارٌ، فاحْتَرَقَت الجنَّةُ، ففَقدَها وهو أحوجُ ما يكونُ إليها؛ فالفاقةُ في الشَّيخوخةِ أصْعبُ، وفي هذا الحديثِ تَفسيرٌ لهذا المثلِ؛ فقدْ سألَ عُمرُ بنُ الخطَّابِ رضِي اللهُ عنه أصحابَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما مَقصِدُ الآيةِ؟ وفي أيِّ شَيءٍ تَظنُّونَها ضُرِبَتْ؟ فقالوا: اللهُ أعلَمُ، فغَضِبَ عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه مِن ردِّهم، وقال لهم: قولوا: نَعلَمُ، أو: لا نعلمُ، وإنَّما غضِبَ عُمرُ رضِي اللهُ عنه؛ لأنَّ إجابتَهم كانتْ تَحتمِلُ مَعرفتَهم أو عدمَ مَعرفتِهم، فهي تَصلُحُ للعالمِ بالجَوابِ والجاهِلِ به، فأراد منْهم تَبيينَ مُرادِهم. فأجابَ ابنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما، وقال: يا أميرَ المؤمنينَ، في نفْسي منها شَيءٌ، أي: مِنَ العلمِ. فقال له عُمرُ رضِي اللهُ عنه: يا ابْنَ أخي، قُلْ ولا تَحقِرْ نفْسَكَ، وذلك أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما كان من صِغارِ الصَّحابةِ، فقال ابنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: لِعملٍ، فقال له عُمرُ: أيُّ عَملٍ؟ ثمَّ بيَّنَ عُمرُ رضِيَ اللهُ عنه هذا العَملَ، فقال: لِرجلٍ غَنيٍّ يَعمَلُ بطاعةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ بعَثَ اللهُ له الشَّيطانَ، فعَمِلَ بِالمعاصي حتَّى أغرَقَ أعمالَه، أي: أضاعَ أعمالَه الصَّالحةَ بما ارتكبَ مِنَ المعاصِي، واحتاجَ إلى شَيءٍ مِنَ الطَّاعاتِ في أهمِّ أحوالِه، فلمْ يَحصُلْ له منها شَيءٌ، وخانَه أحْوَجَ ما كان إليه.
وفي الحَديثِ: قوَّةُ فَهْمِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما وقُرْبُ مَنزلتِه مِن عُمرَ رضِي اللهُ عنه، وتَقديمُه له مِن صِغرِه، وتَحريضُ العالِمِ تِلميذَه على القولِ بحَضرةِ مَن هو أسنُّ منه إذا عرَفَ فيه الأهليَّةَ.
وفيه: أنَّه إذا كان الرَّجلُ ذا لُبٍّ وفِقهٍ فإنَّه لا يَنْبغي له أنْ يَحقِرَ نفْسَه.
وفيه: إلْقاءُ العالِمِ المسائلَ على المُتعلِّمين؛ ليَختبِرَ أفهامَهم.