باب قوله: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}: 2

بطاقات دعوية

باب قوله: {ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}: 2

عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال -حين وقع بينه وبين ابن الزبير (73) - قلت: أبوه الزبير، وأمه أسماء، وخالته عائشة، وجده أبو بكر، وجدته صفية.
(وفي رواية: عن ابن أبي مليكة -وكان بينهما شىء- قال: فغدوت على ابن عباس، فقلت: أتريد أن تقاتل ابن الزبير فتحل حرم الله؟ فقال: معاذ الله! إن الله كتب ابن الزبير وبنى أمية محلين، وإنى والله لا أحله أبدا. قال: قال الناس: بايع لابن الزبير. فقلت: وأين بهذا الأمر عنه (74)، أما أبوه فحوارى النبي - صلى الله عليه وسلم -يريد: الزبير- وأما جده فصاحب الغار -يريد: أبا بكر- وأما أمه فذات النطاق -يريد: أسماء- وأما خالته فأم المؤمنين -يريد: عائشة- وأما عمته فزوج النبي - صلى الله عليه وسلم -يريد: خديجة- وأما عمة النبي صلى الله عليه وسلم فجدته -يريد: صفية- ثم عفيف فى الإسلام، قارئ للقرآن، والله (75) إن وصلونى وصلونى من قريب، وإن ربونى ربنى أكفاء كرام، فآثر التويتات، والأسامات، والحميدات -يريد: أبطنا من بنى أسد بنى تويت (76)، وبنى أسامة ، وبنى أسد- إن ابن أبى العاص برز يمشى القدمية (77) - يعنى: عبد الملك بن مروان -وإنه لوى ذنبه. يعنى: ابن الزبير).
(ومن طريق أخرى: عن ابن أبي مليكة: دخلنا على ابن عباس، فقال: ألا تعجبون لابن الزبير؟ قام فى أمره هذا؛ فقلت: لأحاسبن نفسى له (78) ما حاسبتها لأبى بكر ولا لعمر، ولهما كانا أولى بكل خير منه، وقلت: ابن عمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وابن الزبير، وابن أبى بكر، وابن أخى خديجة، وابن أخت عائشة، فإذا هو يتعلى عنى، ولا يريد ذلك، فقلت: ما كنت أظن أنى أعرض هذا من نفسى فيدعه، وما أراه يريد خيرا، وإن كان لا بد؛ لأن يربنى بنو عمى أحب إلى من أن يربنى غيرهم)

كان بيْن عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيرِ وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهم ما يكونُ بيْن النَّاسِ في بعْضِ الأوقاتِ مِنَ التَّخاصُمِ، إلَّا أنَّ الخِصامَ لم يحمِلْ أحدًا منهم على تَرْكِ إنصافِ صاحِبِه أو غَمْطِه حَقَّه.
وفي هذا الحَديثِ يحكي عبدُ اللهِ بنُ عُبَيدِ اللهِ بنِ أبي مُلَيْكَةَ أنَّه ذهَبَ في وقْتِ الغَداةِ -وهو أوَّلُ النَّهارِ- إلى ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما، فقالَ له مُسْتنكِرًا: «أتُرِيدُ أنْ تُقاتِلَ ابنَ الزُّبيرِ فتُحِلَّ حَرَمَ اللهِ؟!» أي: مِنَ القتالِ في الحرمِ وقد حرَّم الله ذلك!
فاستعاذ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما بالله من أن يستبيحَ ما حَرَّم اللهُ، وذكر أنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قضى وقدَّر أنَّ عبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنه وبني أميَّةَ يستبيحون القِتالَ في الحرَمِ. يُشيرُ إلى ما جَرى بيْن ابنِ الزُّبَيْرِ وبني أُمَيَّةَ مِنَ القتالِ في الحرَمِ، وقد نَسَب ابنُ عَبَّاسٍ لابنِ الزُّبيرِ إباحةَ الحَرَمِ مع بني أميَّةَ -وإن كان بنو أميَّةَ هم الذين ابتدؤوه بالقِتالِ وحَصَروه، وكان مدافعًا عن نفسِه بدايةً-؛ لأنَّ ابنَ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما بعد أن ردَّ الله عنه بنو أميَّةَ حصر بني هاشِم ٍلِيُبايعوه، فشرع فيما يؤذِنُ بإباحةِ القِتالِ في الحرَمِ.
قال ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: «وإِنِّي واللهِ لا أُحِلُّه»، أي: لا أُحِلُّ القتالَ في الحرَم أبدًا حتى وإن قوتِلتُ فيه.
ثُمَّ قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: «قال النَّاسُ»، ويعني بهم مَن كان مِن جِهةِ ابنِ الزُّبيرِ ومن بايعه بالخِلافةِ، «بَايِعْ لابنِ الزُّبَيْرِ» خَليفةً لِلمسلِمينَ، فقال ابنُ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: «وأينَ بهذا الأمْرِ عنه؟!» أي: ليْستِ الخلافةُ بَعيدةً عنه؛ لِمَا له مِنَ الشَّرفِ؛ فَأَمَّا أبُوه الزُّبيرُ بنُ العوَّامِ رَضِيَ اللهُ عنه فَحَوارِيُّ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم. والحَوارِيُّ هو: النَّاصرُ الخالِصُ من الأصحابِ، وأمَّا جَدُّه -يعني لأمِّه- فَصاحِبُ الغارِ، يَقصِدُ أبا بكرٍ الصِّدِّيقَ رضِي اللهُ عنه، «وأَمَّا أمُّه فَذاتُ النِّطاقِ»، وهي أسماءُ بنتُ أبي بَكرٍ رضِيَ اللهُ عنهما، وسُمِّيتْ أُمُّه بذاتِ النِّطاقِ؛ لأنهَّا شقَّتْ نِطاقَها -وهو ما تَشُدُّ به المرأةُ وسَطَها- نِصفينِ، وربَطَتْ قِرْبَةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِأحدِ الشِّقَّينِ، وجَعَلتِ الآخَرَ على ما كانَ يُحْمَلُ فيه الطَّعامُ، تُخفيهم بذلك عن كُفَّارِ قُرَيشٍ، وأمَّا خالتُه فهي أمُّ المؤمنينَ عائشةُ أختُ أسماءَ رضِيَ اللهُ عنهما، وأمَّا عمَّتُه فهي أمُّ المؤمنين خَديجةُ بنتُ خُوَيلدِ بنِ أَسدٍ رضِيَ اللهُ عنها، وهي أُختُ العوَّامِ بنِ خُويلدٍ، وأَطلَقَ عليها عمَّتَه تَجوُّزًا؛ لأنَّها عمَّةُ أبيه. وأمَّا عمَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فجَدَّتُه، وهي صَفيَّةُ بنتُ عبدِ المطَّلِبِ رضِيَ اللهُ عنها.
ثمَّ انتَقَلَ مِن بَيانِ نَسبِه الشَّريفِ إلى بَيانِ صِفاتِه الذَّاتيَّةِ الحَميدةِ، فذكر أنَّه عَفيفٌ قارئٌ للقُرآنِ، وأرادَ بِالعِفَّةِ في الإسلامِ النَّزاهةَ عَنِ الأشياءِ الَّتي تَشينُ الرَّجُلَ، والعفَّةُ أيضًا الكفُّ عَنِ الحرامِ وعن سُؤالِ النَّاسِ.
ثم أخذ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما يشكُرُ بني أميَّةَ ويَعتِبُ على ابنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فإنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قد آثره على بني أميَّةَ برَغمِ وَصْلِهم له، ومع ذلك فقد جفاه ابنُ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما، فقال: «واللهِ إنْ وَصلوني»، يعني: بني أُمَيَّة «وَصلوني مِن قَريبٍ»، أي: مِن أجْلِ القَرابةِ؛ وذلك أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما يَتَّصلُ نَسبُه ببَني أُميَّة؛ فبنو أميَّةَ مِن بني عبدِ مَنافٍ، وابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما من بني هاشمِ بنِ عبدِ مَنافٍ. «وإنْ رَبَّونِي رَبَّوْنِي أكْفَاءٌ كِرامٌ»، رَبَّوْني مِنَ التَّربيَةِ، ويعني بها سادوني وصاروا علَيَّ حكَّامًا، والأكْفَاءُ: جمعُ كُفْءٍ، وهو في الأصلِ بِمعنى النَّظيرِ والمُساوي، وكِرامٌ جمْعُ كَريمٍ، وهو الجامعُ لأنواعِ الخيْرِ والشَّرفِ والفضائلِ. وكان ابنُ الزُّبيِر إذا دعا النَّاسَ في الإذنِ بدَأَ بِبَني أسدٍ عَلى بَني هاشمٍ وبَني عبدِ شمسٍ وغيرِهم؛ فهذا مَعْنى قولِ ابنِ عبَّاسٍ رضِي اللهُ عنهما: «فآثرَ التُّويتَاتِ والأُساماتِ والحُمَيداتِ»، أي: اختارَ التُّوَيْتاتِ والأساماتِ وَالحُميداتِ علَيَّ ورضِيَ بهم وأخَذَهم، «يريد: أَبْطُنًا من ِبني أسدٍ: بني تُوَيْتٍ، وبني أُسامةَ، وبني أَسدٍ»، والأبطُنُ: جمْع بَطْنٍ، وهو ما دونَ القَبيلةِ وفوقَ الفَخِذِ. وبنو تُوَيْتٍ نِسبةٌ إلى تُوَيتِ بنِ الحارِثِ بنِ عَبدِ العُزَّى بنِ قُصَيٍّ. وبنو أسامةَ نِسبةٌ إلى أسامةَ بنِ أَسَدِ بنِ عَبدِ العُزَّى. وأمَّا الحميداتُ فنِسبةٌ إلى بني حميدِ بنِ زُهَيرِ بنِ الحارِثِ بنِ أسَدِ بنِ عبدِ العُزَّى. وتجتَمِعُ هذه الأبطُنُ مع خُوَيلدِ بنِ أسَدٍ جَدِّ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنه.
ثُمَّ قال ابنُ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما: «إنَّ ابنَ أبي العاصِ» يَقصِدُ عبدَ الملِكِ بنَ مَرْوانَ بنِ الحَكمِ بنِ أبي العاصِ؛ نِسبةً إلى جَدِّ أبيه، «برَزَ يَمشي القُدَمِيَّة»، أي: ظهَرَ يَمْشي التَّبختُرَ؛ لِركوبِه مَعاليَ الأمورِ، وسعى لتحقيقِ ما يهدِفُ إليه، وهو في تقَدُّمٍ مَلموسٍ. وقيل: معناه: تَقدُّمه في الشَّرفِ والفضلِ، «وإنَّه لوَّى ذَنَبَه»، أي: إنَّ ابنَ الزُّبيرِ رضِيَ اللهُ عنهما وقَفَ على حالِه، فلم يَتقدَّمْ ولم يَتأخَّرْ، ولا وضَعَ الأشياءَ في نِصابِها الصَّحيحِ. وكان الأمرُ كما قال ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما؛ فإنَّ عبدَ المَلِكِ بنَ مَروانَ لم يَزَلْ في تقدُّمٍ مِن أمْرِه حتى استنقذَ العِراقَ مِن ابنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما، وقتل أخاه مُصعَبًا، ثم جَهَّز العساكِرَ إلى ابنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللهُ عنهما بمكَّةَ، فكان من الأمرِ ما كان، ولم يَزَلْ أمرُ ابنِ الزُّبَيرِ في تأخيرٍ إلى أن قُتِلَ رحمه اللهُ ورَضِيَ عنه.
وفي الحَديثِ: فضيلةُ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما وفِقْهُه للأمورِ وحُسنُ أدَبِه عند الخِلافِ.
وفيه: خُطورةُ الصِّراعِ على أمورِ السِّياسةِ والحُكمِ.