باب قوله: {حتى إذا استيأس الرسل}

بطاقات دعوية

باب قوله: {حتى إذا استيأس الرسل}

 عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى: {حتى إذا استيأس الرسل}؛ قال: قلت: أ {كذبوا} أم {كذبوا}؟ قالت عائشة: {كذبوا}. قلت: فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم , فما هو بالظن؟ قالت: أجل لعمرى {يا عرية! 4/ 123] لقد استيقنوا بذلك. فقلت لها: [لعلها] {وظنوا أنهم قد كذبوا] [مخففة]؟ قالت: معاذ الله (95)! لم تكن الرسل تظن ذلك بربها. قلت: فما هذه الآية؟ قالت: هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم، فطال عليهم البلاء، واستأخر عنهم النصر حتى استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم جاءهم نصر الله عند ذلك.
[قال أبو عبد الله: {استيأسوا}: افتعلوا من يئست منه، من {يوسف}: {لا تيأسوا من روح الله}؛ معناه: الرجاء 4/ 123].
__________

لقدْ نالتْ أمُّ المؤمنينَ عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها حَظًّا وَفيرًا مِن العِلمِ والفِقهِ في الدِّينِ، فكان الصَّحابةُ بعْدَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكذا مَن عاصَرَها مِن التَّابعينَ يَسأَلونها عمَّا جَهِلوه أو أشْكَلَ عليهم فَهْمُه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ التَّابعيُّ عُرْوةُ بنُ الزُّبَيرِ أنَّه سَأَلَ خالَتَه أمَّ المؤمِنينَ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها زَوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَن قولِ اللهِ تعالَى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا} [يوسف: 110] بالتَّشديدِ «كُذِّبُوا»، أو بالتَّخفيفِ {كُذِبُوا}؟ فقالتْ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عنها: ليس الظَّنُّ كما فَهِمْتَ! بلْ كذَّبَهم -بالتَّشديدِ- قومُهم، فهو بِمعنى اليَقينِ، وهو سائغٌ، كما في قولِه تعالَى: {وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة: 118]. فقال عُرْوةُ: «واللهِ لقَدِ اسْتَيقَنُوا أنَّ قَومَهم كذَّبُوهم، وما هو بِالظَّنِّ»، فقالتْ عائشةُ رادَّةً عليه: يا عُرَيَّةُ -تَصغيرُ عُرْوةَ- لقدِ استَيقَنوا بذلك.
فقال عُرْوَةُ: فلعلَّها «أو كُذِبوا»؟ فقالتْ: مَعاذَ اللهِ! لم تكُنِ الرُّسلُ تَظُنُّ ذلك، أي: لم تكُنْ تظُنُّ إخلافَ الوَعدِ برَبِّها، وأمَّا هذه الآيةُ فَالمرادُ مِنَ الظَّانِّينَ فيها أَتباعُ الرُّسلِ الَّذين آمَنوا وصدَّقُوا الرُّسلَ، وطالَ عليهمُ البلاءُ واستَأخَرَ عنهمُ النَّصرُ، حتَّى إذا استْيأسَت الرُّسلُ مِمَّنْ كَذَّبهم مِن قَومِهم، وظَنُّوا أنَّ أتْباعَهم كذَّبوهم؛ جاءَهم نَصْرُ اللهِ. وظاهِرُ هذا أنَّ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها أنكرَتْ قِراءةَ التَّخفيفِ؛ بِناءً على أنَّ الضَّميرَ في قولِه: {وَظَنُّوا} لِلرُّسلِ، ولعلَّها لم تَبلُغْها هذه القِراءةُ؛ فقدْ ثبَتَتْ مُتواتِرةً، وقدْ قرَأَ بها عاصمٌ وحمْزةُ والكِسائيُّ، ووُجِّهَتْ قِراءةُ التَّخفيفِ هذِه بأنَّ الضَّميرَ في {وَظَنُّوا} عائدٌ على المرسَلِ إليهم؛ لِتقدُّمِهم في قولِه تعالَى: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [يوسف: 109]، ولأنَّ الرُّسلَ تَستدْعِي مُرسَلًا إليه، أي: وظَنَّ المرسَلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قدْ كَذَبوهم بالدَّعوةِ والوَعيدِ. وقيل: الضَّميرُ الواردُ في قولِه تعالَى: {وَظَنُّوا} للمُرسَلِ إليهم، والضَّميرُ الواردُ في قولِه تعالَى: {كُذِبُوا} لِلرُّسلِ، أي: وظَنَّ المرسَلُ إليهم أنَّ الرُّسلَ قدْ كُذِبوا وأُخلِفُوا فيما وُعِدَ لهم مِنَ النَّصرِ وخُلِطَ الأمْرُ عليهم.