باب قوله: {فلما رأوه عارضا مستقبل

بطاقات دعوية

باب قوله: {فلما رأوه عارضا مستقبل

عن عائشة - رضى الله عنها - زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - قالت: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكا حتى أرى منه لهواته، إنما كان يتبسم. قالت: وكان إذا رأى غيما أو ريحا عرف فى وجهه (وفى طريق: إذا رأى مخيلة فى السماء أقبل وأدبر، ودخل وخرج، وتغير وجهه، فإذا أمطرت السماء سرى عنه، فعرفته عائشة ذلك 4/ 76)؛ قالت يا رسول الله! الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إذا رأيته عرف فى وجهك الكراهية؟ فقال:
«يا عائشة! ما يؤمنى أن يكون فيه عذاب، عذب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا: {هذا عارض ممطرنا} (وفى الطريق الأخرى: فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «ما أدرى، لعله كما قال قوم: {فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم} الآية»).

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخشَى على أُمَّتِهِ العذابَ في الدُّنيا والآخِرةِ، وكان يُعلِّمُ أصحابَهُ أنَّ أمْرَ المؤمنِ مع اللهِ بيْن الخَوفِ والرَّجاءِ؛ حتَّى يَعمَلوا ولا يَتَّكِلوا على الإيمانِ والإسلامِ.
وفي هذا الحَديثِ تُخبِرُ أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها أنها لم تر لَهَوَاتِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عندما كان يَضحَكُ، واللَّهَاةُ: اللَّحْمَةُ المُتعلِّقةُ في أعلى الحَلْقِ، وهذا كِنايةٌ عن أنَّ ضَحِكَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لم يكُنْ بالضَّحِكِ الشَّديدِ، وإنما كان يَكْتفي النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عِندَ ضَحِكِهِ بالتَّبسُّمِ.
وأخبرت أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا رأى غَيْمًا -أي: سحابًا- أو رِيحًا عُرِفَ في وَجْهِهِ الكَراهِيَةُ والخوفُ؛ وذلك خشيةَ أنْ تُصِيبَ أُمَّتَه عُقوبةٌ بذُنوبِ العُصاةِ. وفي روايةٍ أخرى في الصَّحيحينِ ذكَرَت أنَّه إذا أمطَرَتِ السَّماءُ سُرِّيَ عنه، يعني كُشِفَ عنه ما خالَطَه مِنَ الخَوفِ والوَجَلِ.
فسألت أمُّ المُؤمِنينَ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها، عن سَبَبِ ذلك، فقالَتْ: «يا رَسولَ اللهِ، إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوُا الغَيْمَ فرِحوا؛ رَجاءَ أنْ يكونَ فيه المطَرُ»، أي: ظَنًّا منهم أنَّه يَحمِلُ لهم ماءً يَسْتَقُونَ مِنْهُ، «وأَراكَ إذا رأيْتَهُ»، أي: السَّحابَ «عُرِفَ في وَجهِكَ الكَراهيةُ؟!» أي: تَغيَّرَ وجهُهُ وبَدَا عليه الخوفُ.
فأجابها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قائلًا: «يا عائشةُ، ما يُؤْمِنِّي أنْ يكونَ فيه عَذابٌ؟» أي: ما يَجعَلُني آمِنًا مِن أنْ يكونَ فيه عَذابٌ مِنَ اللهِ تعالَى، إنَّ خَوْفي وكُرهي خَشْيَةَ أنْ يَكونَ بالسَّحابَةِ أو الرِّياحِ عَذابٌ مِنَ اللهِ عزَّ وجلَّ على العِبادِ، «عُذِّبَ قَوْمٌ بالرِّيحِ» يَقصِدُ قَومَ عادٍ الَّذين أُرْسِلَ فيهم نبيُّ اللهِ هُودٌ عليه السَّلامُ؛ فقدْ أرسَلَ اللهُ عليهِمُ الرِّيحَ فأهلَكَتْهُمْ، «وقد رأى قومٌ العذابَ، فقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنَا» أي: إنَّهم لَمَّا رَأَوُا السَّحابَ ظَنُّوا أنَّ به المطَرَ، قال اللهُ تَعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}، والمُرادُ بالعارِضِ: السَّحابُ؛ وذلك لأنَّه يَعترِضُ السَّماءَ ويَحجُبُ رؤيتَها، فأجابَهُمُ اللهُ عزَّ وجلَّ بقولِه: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخافُ مِنَ اللهِ أشَدَّ الخَوْفِ على ما له مِن كَرامَةٍ عليه، ولكنَّه خَوْفُ المؤمنِ الَّذي لا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ، وإذا كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بهذه الدَّرجةِ مِنَ الخوفِ مِن رَبِّهِ، فيَنبغي أنْ يكونَ غَيرُه أَشَدَّ خَوْفًا وحِرْصًا على المُداوَمَةِ على الطَّاعةِ وترْكِ المعصيةِ.
فإنْ قيلَ: كيف يَخشى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنْ يُعذَّبَ القَومُ وهو فيهم، مع قَولِ اللهِ تَعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]؟ فالجَوابُ: أنَّ في الآيةِ احتِمالَ التَّخصيصِ بالمَذكورينَ، أو بوَقتٍ دُونَ وَقتٍ، أو أنَّ مَقامَ الخَوفِ يَقتَضي غَلَبةَ عَدَمِ الأمْنِ مِن مَكرِ اللهِ تعالَى، وأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في أغلَبِ الأحوالِ يُعلِّمُ أُمَّتَه، ومِن ذلك أنَّ الإنسانَ لا يَأمَنُ مَكرَ اللهِ، كما في قَولِ اللهِ تَعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].
وفي الحَديثِ: بَيانُ أنَّه لا يَنبَغي لِأحَدٍ أنْ يَأْمَنَ مِن عَذابِ اللهِ تعالَى.
وفيه: الاستِعدادُ بالمُراقَبةِ للهِ، وبالالتِجاءِ إليه عِندَ اختِلافِ الأحوالِ وحُدوثِ ما يُخافُ بسَبَبِه.
وفيه: تَذَكُّرُ ما يَذهَلُ المَرءُ عنه ممَّا وَقَعَ لِلأُمَمِ الخاليةِ، والتَّحذيرُ مِنَ السَّيرِ في سَبيلِهم؛ خَشيةَ وُقوعِ مِثلِ ما أصابَهم.
وفيه: شَفَقَةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على أُمَّتِه ورَأفَتُه بهم، كما وَصَفَه اللهُ تَعالى: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128].