باب كفارة من ترك الجمعة من غير عذر
سنن النسائي
أخبرنا سويد بن نصر، قال: أنبأنا عبد الله، عن يونس، عن الزهري، قال: حدثنا عبد الرحمن الأعرج، أنه سمع أبا هريرة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام، وفيه أدخل الجنة، وفيه أخرج منها»
فضَّلَ اللهُ عزَّ وجلَّ يَومَ الجُمُعةِ على سائرِ الأيَّامِ؛ لِمَا وقَع فيه مِن أحداثٍ عِظامٍ، ومن ذلك أنَّه جعَل فيه ساعةَ إجابةٍ لا يُوافِقُها عبدٌ يسألُ اللهَ تعالى مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ إلَّا أعطاهُ إيَّاه
وفي هذا الحديثِ بيانُ بعضِ فَضائِلِ هذا اليومِ العَظيمِ، وبيانُ وقتِ هذه الساعةِ العَظيمةِ، حيثُ يقولُ أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه: "أتَيتُ الطُّورَ"، أي: جبَلَ الطُّورِ، وهو الجبَلُ الَّذي ناجَى عليه موسى رَبَّه، قال: "فوجَدتُ ثَمَّ كَعبًا"، أي: وجَدتُه هناك عندَ ذلك الجبَلِ، وكَعبٌ هو بنُ ماتِعٍ الحِمْيَريُّ، وكان مِن التَّابِعين، ولُقِّب بكَعبِ الأحبارِ؛ لعِلْمِه بالتَوراةِ، وكان يهوديًّا ثمَّ أسلَم
قال أبو هُرَيرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "فمَكَثتُ أنا وهو يومًا، أُحدِّثُه عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، ويُحدِّثُني عن التَّوراةِ"، أي: جلَسَا يتَدارَسان مِن حَديثِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ومِن التَّوراةِ الَّتي كان يَعرِفُها كعبُ الأحبارِ، قال أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه: "فقلتُ له: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: خيرُ يومٍ طلَعَتْ فيه الشَّمسُ يومُ الجُمُعةِ"، أي: أفضَلُ أيَّامِ الأُسبوعِ هو يومُ الجُمُعةِ؛ "فيه خُلِقَ آدَمُ"، الَّذي كرَّمَه اللهُ تعالَى وفضَّله على كَثيرٍ ممَّن خلَقَ تَفضيلًا، وباهَى اللهُ بخِلْقتِه مَلائكتَه، "وفيه أُهبِطَ"، أي: وفي يومِ الجُمُعةِ هَبَط آدَمُ عليه السَّلامُ بأمرِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلى الأرضِ، وهو يومُ خُروجِه مِن الجنَّةِ، "وفيه تِيب عليه"، أي: وفي يومِ الجمُعةِ تاب اللهُ على آدَمَ بعدَما عَصاه وأكَل مِن الشَّجرةِ التي نهاهُ اللهُ عنها، "وفيه قُبِض"، أي: وفي يومِ الجُمُعةِ أيضًا ماتَ أبو البشَرِ آدَمُ عليه السَّلامُ، "وفيه تَقومُ السَّاعةُ"، أي: يومَ القِيامةِ، وهذا وحْدَه يَكْفي أنْ يَجعَلَ الخيريَّةَ في هذا اليومِ؛ لأنَّ لأحداثِ السَّاعةِ شأنًا عظيمًا؛ ولذلِك "ما على الأرضِ مِن دابَّةٍ إلَّا وهي تُصبِحُ يومَ الجُمُعةِ مُصِيخةً"، وفي روايةِ أحمَدَ وأبي داودَ: "مُسِيخةً"، أي: مُصْغيَةً ومُستمِعةً، "حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ؛ شَفَقًا مِن السَّاعةِ"، أي: خوفًا مِن قِيامِ السَّاعةِ في ذلك اليَومِ؛ وذلك لِمَا جبَلَه اللهُ عليها، "إلَّا ابنَ آدمَ"، وفي روايةِ أحمَدَ وأبي داودَ: "إلَّا الجِنَّ والإنسَ"، أي: فإنَّهم لا يتَرقَّبون ولا يَخافون قِيامَ السَّاعةِ في هذا اليومِ؛ لِكَثرةِ غَفلتِهم، "وفيه"، أي: وفي يومِ الجمعةِ، "ساعةٌ لا يُصادِفُها"، أي: يُوافِقُها، "مؤمنٌ وهو في الصَّلاةِ يَسأَلُ اللهَ فيها شيئًا"، أي: يَدْعو ويَطلُبُ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ حاجتَه وهو في صلاتِه، "إلَّا أعطاه إيَّاه"، أي: أجابَه اللهُ فيها، "فقال كعبٌ: ذلك يومٌ في كلِّ سنَةٍ"، أي: إنَّ تِلك السَّاعةَ تأتي في يومٍ واحدٍ مِن السَّنَةِ، فقال أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه: "بل هي في كلِّ جمعةٍ"، أي: إنَّ تِلك السَّاعةَ في كلِّ جُمُعةٍ مِن جُمُعاتِ السَّنةِ
قال: "فقرَأ كعبٌ التَّوراةَ"، أي: قرَأ مِن التَّوراةِ مُراجِعًا لقولِ أبي هُريرةَ: إنَّها في كلِّ جُمُعةٍ؛ "ثمَّ قال: صدَق رسولُ اللهِ؛ هو في كلِّ جُمُعةٍ"، وهذا تأكيدٌ لِمَا أخبَر به أبو هُريرةَ عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم قال أبو هُريرةَ: "فخرَجتُ"، أي: انصرَفتُ مِن جَبلِ الطُّورِ، "فلَقِيتُ بَصْرةَ بنَ أبي بَصرَةَ الغِفاريَّ"، وكان له ولأبيه صُحبةٌ رَضِي اللهُ عَنهما، "فقال: مِن أين جِئتَ؟ قلتُ: مِن الطُّورِ"، فقال بَصْرةُ رَضِي اللهُ عَنه: "لو لَقيتُك مِن قَبلِ أن تأتِيَه لم تأتِهِ"، أي: لم تَكُنْ لِتَذهَبَ إلى جَبلِ الطُّورِ، وظاهِرُ ذَهابِ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه للجبَلِ كان قَصدًا له، وليس مُرورًا عليه في سَفرٍ، قال أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه: "قلتُ له: ولِمَ؟"، أي: ما سبَبُ نَهيِك لي عن الذَّهابِ إليه؟ قال بَصْرةُ رَضِي اللهُ عَنه: "إنِّي سَمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يقولُ: لا تُعمَلُ المَطِيُّ"، أي: لا تُحَثُّ، ولا تُساقُ ولا يُقصَدُ السَّفَرُ بالمطيَّةِ، وهي النَّاقةُ الَّتي يُركَبُ مَطَاها، أي: ظَهرُها، "إلَّا إلى ثلاثةِ مَساجِدَ"، أي: لا يُسافِرُ بقَصدِ العِبادةِ والصَّلاةِ فيها إلَّا إلى المساجِدِ الَّتي نصَّ عليها النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، وهي: "المسجِدُ الحرام، ومَسْجِدي"، أي: مَسجِدُ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم في المَدينةِ، "ومَسجِدُ بيتِ المقدِسِ"، وهو والمسجِدُ الأقْصى الذي بارَكَ اللهُ حولَه
قال أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه: "فلَقيتُ عبدَ اللهِ بنَ سَلَامٍ"، وكان مِن أحبارِ اليهودِ، وأسلَم في عَهدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم، فأعاد عليه ما دارَ بينَه وبينَ كَعْبِ الأحبارِ "فقلتُ: لو رأيتَني خرَجتُ إلى الطُّورِ فلَقيتُ كَعبًا فمَكَثتُ أنا وهو يومًا أُحدِّثُه عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم ويُحدِّثُني عن التَّوراةِ! فقلتُ له: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: خيرُ يومٍ طلَعَت فيه الشَّمسُ يومُ الجُمُعةِ؛ فيه خُلِق آدَمُ، وفيه أُهبِط، وفيه تِيبَ عليه، وفيه قُبِض، وفيه تَقومُ السَّاعةُ، ما على الأرضِ مِن دابَّةٍ إلَّا وهي تُصبِحُ يومَ الجمعةِ مُصِيخَةً حتَّى تَطلُعَ الشَّمسُ شَفَقًا مِن السَّاعةِ، إلَّا ابنَ آدمَ، وفيه ساعةٌ لا يُصادِفُها عبدٌ مؤمِنٌ وهو في الصَّلاةِ يَسأَلُ اللهَ فيها شيئًا، إلَّا أعطاه إيَّاه، قال كَعبٌ: ذلك يومٌ في كلِّ سنَةٍ"، فقال عبدُ اللهِ بنُ سَلَامٍ: "كذَبَ كَعبٌ"، أي: أخطَأ فيما قال، والعرَبُ يَقولون: كَذَب موضِعَ أخطَأ، "قلتُ: ثمَّ قرَأ كَعبٌ"، أي: قرَأ وراجَع التَّوْراةَ، أي: لِيَنظُرَ ويتَأكَّدَ ما قاله آخِذًا مِنها، مِن أنَّها في جُمُعةٍ واحدةٍ مِن السَّنةِ، ثُمَّ بعدَ أن نظَر في التَّوراةِ، ووجَد ما قالَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم حقًّا "فقال: صدَق رَسولُ اللهِ؛ هو في كلِّ جُمُعةٍ"، أي: مُظهِرًا لتصويبِ كَعبٍ ومُراجعتِه لنَفسِه فقال عبدُ اللهِ رَضِي اللهُ عَنه: "صدَق كعبٌ؛ إنِّي لأَعلَمُ تلك السَّاعةَ"، فقال أبو هُرَيرَةَ: "فقلتُ: يا أخي، حدِّثْني بها"، أي: أعلِمْني بمَوعِدِها، فقال ابنُ سَلامٍ رَضِي اللهُ عَنه: "هي آخِرُ ساعةٍ مِن يوم الجُمُعةِ قبلَ أن تَغيبَ الشَّمسُ"، فراجَعَه أبو هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه في قولِه هذا: "أليسَ قد سَمِعتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يقولُ: لا يُصادِفُها مؤمنٌ وهو في الصَّلاةِ، وليستْ تلك السَّاعةُ صلاةً؟!"، أي: إنَّ السَّاعةَ الَّتي ذَكَرتَها لا يَكونُ فيها صلاةٌ؛ لأنَّها مِن الأوقاتِ المنهيِّ عن الصَّلاةِ فيها، قال ابنُ سلَامٍ رَضِي اللهُ عَنه: "ألَيس قد سَمِعتَ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم يقولُ: مَن صلَّى وجلَس"، أي: في المسجِدِ، "يَنتظِرُ الصَّلاةَ لم يَزَلْ في صلاتِه"، ويكونُ أجْرُ انتِظارِها بمِثْلِ الأجرِ الَّذي يَكونُ به في صَلاتِه، "حتَّى تأتِيَه الصَّلاةُ الَّتي تُلاقيها"، أي حتَّى يَدخُلَ عليه وقتُ الصَّلاةِ التَّاليةِ؟! فقال أبو هريرةَ رَضِي اللهُ عَنه: "بَلى"! فقال ابنُ سلامٍ رَضِي اللهُ عَنه: "فهو كَذلك"، أي: إنَّ مَن جلَس في تِلك السَّاعةِ يَنتظِرُ صلاةَ المغرِبِ؛ فهو في حُكمِ الصَّلاةِ، فإذا صادَفَها وهو كذلك، استُجيبَ له دُعاؤُه
ولا يعارِضُ حُصولُ الإجابةِ لكلِّ داعٍ بالشَّرطِ المتقدِّمِ أنَّ الزَّمَنَ يَختلِفُ باختلافِ البلادِ، والمصلِّي، فيتَقدَّمُ بعضٌ على بعضٍ، وساعةُ الإجابةِ مُتعلِّقةٌ بالوقتِ، فكيف تتَّفِقُ مع الاختلافِ؛ لاحتمالِ أنْ تكونَ ساعةُ الإجابةِ مُتعلِّقةً بفعلِ كلِّ مصلٍّ، كما قيل نَظيرُه في ساعةِ الكَراهةِ، ولعلَّ هذا فائدةُ جَعْلِ الوقتِ الممتَدِّ مَظِنَّةً لها, وإنْ كانت هي خَفيفةً، ويَحتمِلُ أن يَكونَ عبَّر عن الوقتِ بالفِعلِ؛ فيَكونَ التَّقديرُ وقْتَ جَوازِ الخُطبةِ، أو الصَّلاةِ، ونحوِ ذلك
وفي الحديثِ: فضلُ يومِ الجُمُعةِ؛ لاختصاصِه بساعةِ الإجابةِ
وفيه: بيانُ فضلِ الدُّعاءِ والإكثارِ منه
وفيه: بيانُ ما عِندَ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنه مِن حِرصٍ على أخْذِ العِلمِ وتَلقِّيه مِن غيرِه
وفيه: فَضيلةُ ابنِ سَلَامٍ وكَثرةُ عِلمِه
وفيه: التحذيرُ مِن شدِّ الرِّحالِ لغيرِ المساجِدِ الثَّلاثةِ المشارِ إليها في الحديثِ
وفيه: أخْذُ الصحابةِ على يَدِ بعضِهم البعضِ إذا رأَوا ما يُنكَر، كما في فِعل بَصْرَةَ بنِ أبي بَصْرةَ مع أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنهم