باب كيفية الخطبة
سنن النسائي
أخبرنا محمد بن المثنى، ومحمد بن بشار، قالا: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحق يحدث، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: علمنا خطبة الحاجة: " الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم يقرأ ثلاث آيات: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران: 102]، {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} [النساء: 1]، {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا} [الأحزاب: 70] "، قال أبو عبد الرحمن: «أبو عبيدة لم يسمع من أبيه شيئا، ولا عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، ولا عبد الجبار بن وائل بن حجر»
ما ترَك النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِن شَيءٍ فيه خيرٌ للنَّاسِ في الدُّنيا والآخرةِ إلَّا علَّمَهم إيَّاه، وحَضَّهم عليه ورغَّبَهم فيه
وفي هذا الحديثِ بيانٌ لبعضِ ذلك، حيث يقولُ عبدُ اللهِ بنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: "أُوتِيَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جَوامِعَ الخيرِ، وخواتِمَه- أو قال: فواتِحَ الخيرِ-"، أي: إنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ علَّمَه كلَّ ما فيه نَفعٌ لأُمَّتِه في الدِّينِ والدُّنيا، "فعلَّمَنا خُطبةَ الصَّلاةِ"، أي: صِيغَةَ التَّشهُّدِ الَّتي تكونُ في الصَّلاةِ، "وخُطبةَ الحاجةِ"، أي: ما يُقالُ عند افتِتاحِ الكلامِ لقَضاءِ الحاجةِ؛ مثلُ البيعِ، والنِّكاحِ، وغيرِهما، قال ابنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: "خُطبةُ الصَّلاةِ: التَّحيَّاتُ للهِ" هي الكلامُ الَّذي يُحَيَّا به المَلِكُ مِن سلامٍ وغيرِه، والمعنى: أنَّها كلَّها مُستحقَّةٌ للهِ تعالى، وقيل: معنى "التحيَّات" المُلْك. "والصَّلواتُ"، قيل: المُرادُ الصلواتُ الخَمسُ، وقيل: المرادُ أعمُّ من ذلِك، وقيل: العِباداتُ كلُّها، وقيل: الدَّعواتُ، وقيل: الرَّحمةُ، وقيل: التَّحيَّاتُ: العِباداتُ القوليَّةُ، والصَّلواتُ: العِباداتُ الفِعليَّةُ، والطَّيِّباتُ: العِباداتُ الماليَّةُ، قولُه: "والطَّيِّباتُ": الكاملةُ الخالِصةُ من الشَّوائبِ
"السَّلامُ عليك أيُّها النَّبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه، السَّلامُ علينا وعلى عِبادِ اللهِ الصَّالحينَ"، معنى "السَّلام" إمَّا أنْ يكونَ السَّلامَ الَّذي وُجِّهَ إلى الرُّسلِ والأنبياءِ يقَعُ عليك أيضًا أيُّها النَّبيُّ، أو السَّلامَ المعروفَ لكلِّ أحدٍ، وهو اسمٌ مِن أسماءِ اللهِ تعالى، ومعناه: التَّعويذُ باللهِ والتَّحصينُ به، أو هو السَّلامةُ مِن كلِّ عَيبٍ وآفةٍ ونَقصٍ وفَسادٍ، فعلَّمَهم صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُفرِدوه بالذِّكرِ؛ لشَرفِه ومَزيدِ حَقِّه عليهم، ثمَّ علَّمَهم أنْ يخُصُّوا أنفُسَهم؛ لأنَّ الاهتمامَ بها أهمُّ، ثمَّ أمَرَهم بتَعميمِ السَّلامِ على الصَّالحينَ؛ إعلامًا منه أنَّ الدُّعاءَ للمُؤمنينَ يَنْبغي أنْ يكونَ شامِلًا لهم. والصَّالِحونَ هم القائمونَ بما يجِبُ عليهم مِن حُقوقِ اللهِ تعالى وحُقوقِ عِبادِه. والمُرادُ "برَحمةِ اللهِ": إحسانُه، والبركاتُ هي: الزِّيادةُ مِن كلِّ خيرٍ
وقولُه: "أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ"، وفي روايةِ أبي داودَ مِن حديثِ ابنِ عُمرَ رضِيَ اللهُ عنهما زادَ: "وحْدَه لا شَريكَ له"، وهي الشَّهادةُ للهِ سُبحانَه بالتَّوحيدِ، وأنَّه لا مَعبودَ بحَقٍّ إلَّا هو سُبحانَه، "وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه" وهذه شَهادةٌ وإقرارٌ من المُسلمِ للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالرِّسالةِ في كُلِّ صَلاةٍ
قال ابنُ مَسعودٍ رضِيَ اللهُ عنه: "وخُطبةُ الحاجةِ: "إنَّ الحمدَ للهِ"، أي: المُستحِقُّ لجميعِ أنواعِ المحامِدِ هو اللهُ سُبحانَه، "نَستعينُه" في الأمورِ كلِّها، "ونستغفِرُه" من الذُّنوبِ كلِّها، "ونعوذُ به"، أي: نلجَأُ إلى اللهِ ونَحْتمِي به، "من شُرورِ أنفُسِنا"، أي: ما يصدُرُ عنها من المعاصي؛ "مَن يهْدِه اللهُ"، أي: مَن يُوفِّقْه اللهُ تعالى للهِدايةِ، "فلا مُضَلَّ له" مِن الشَّيطانِ والنَّفسِ وغيرِهما، "ومَن يُضْلِلْ"، أي: مَن يُزِغْه عنِ اتِّباعِ الحقِّ، "فلا هادِيَ له"، أي: لا أحدَ يَهديه إلى الحَقِّ من دونِ اللهِ، "وأشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له"، أي: أعلَمُ وأعتقِدُ أنَّه لا معبودَ بحقٍّ إلَّا اللهُ، "وأشهَدُ أنَّ مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه. ثمَّ تَصِلُ خُطبتَك"، أي: تقولُ بعدها مُباشرةً، "بثلاثِ آياتٍ من كتابِ اللهِ"
أوَّلُها: قولُه تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]، وهو نِداءٌ للمُؤمنينَ وتَنبيهٌ لهم بفِعلِ الأوامرِ وترْكِ النَّواهي، وألَّا يأتِيَهم الموتُ إلَّا وهم على الإيمانِ مُخلِصونَ مُحسِنونَ الظَّنَّ باللهِ تَعالى
والثَّانيةُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] أي: تَتساءلونَ به فيما بينكم لقَضاءِ حَوائجِكم من بعضٍ، واتَّقوا الأرحامَ أنْ تَقْطعوها
والثَّالثةُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 70، 71]، وهذا وعدٌ مِن اللهِ لمَن يتَّقيه ويقولُ الحقَّ المُستقيمَ الَّذي لا اعوجاجَ فيه: أنْ يُوفِّقَه للأعمالِ الصَّالحةِ، وأنْ يغفِرَ له ذُنوبَه الماضيةَ، وأنْ يُلْهِمَه التَّوبةَ ممَّا قد يقَعُ منه في المُستقبَلِ، وأنَّ الفوزَ يومَ القيامةِ لمَن أطاع اللهَ ورسولَه
وفي الحديثِ: أنَّ الخُطبةَ يَنْبغي أنْ تكونَ مُشتملِةً على الحَمدِ، والشَّهادتينِ، وبَعضِ الآياتِ القُرآنيَّةِ