باب لحوم الحمر الأنسية 2
بطاقات دعوية
عن عمرو قال: قلت لجابر بن زيد: يزعمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن حمر الأهلية؟ فقال: قد كان يقول ذاك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا بالبصرة، ولكن أبى ذاك البحر ابن عباس، وقرأ: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما} (13).
أحلَّ اللهُ عزَّ وجَلَّ لعبادِه الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزقِ، وحرَّم عليهم الخبائِثَ، وشأنُ التحليلِ والتحريمِ مَوكولٌ إلى اللهِ عزَّ وجَلَّ ورسولِه، وقد اختلف الصَّحابةُ الكِرامُ في بَعضِ الأحكامِ لأسبابٍ عِدَّةٍ، وشأنُ الفقيهِ أن يتتَبَّعَ كُلَّ ما ورد في المسألةِ حتى يَقِفَ على الحُكمِ الصَّحيحِ عن اللهِ عزَّ وجَلَّ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
وفي هذا الحَديثِ يحكي التابعيُّ عمرُو بنُ دِينارٍ أنَّه ذكر لجابرِ بنِ زَيْدٍ -وهو أحدُ التَّابعين- أنَّ بَعضَ النَّاس يَزْعمونَ أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نَهى عن لحومِ الحُمُرِ الأَهْليَّةِ، والزَّعمُ يدُلُّ على الشَّكِّ والتَّردُّدِ في الأمرِ: هلْ هوَ حَرامٌ أمْ حلالٌ؟ والحُمُرُ الأَهْليَّة: هي التي يَستخدِمُها النَّاسُ في حاجتِهم لها في رُكُوبٍ أو حَمْلِ أمتعةٍ، فَقالَ جابرُ بنُ زَيْدٍ: «قدْ كانَ يَقولُ ذاكَ» أي: تحريمَ لحومِ الحُمُرِ الأهليَّةِ، الصَّحابيُّ «الحَكَمُ بنُ عَمْرٍو الغِفَارِيُّ عِنْدَنا بِالبَصْرَةِ»، ولكِنْ أَبَى ذاكَ البَحْرُ ابنُ عبَّاسٍ وقرأَ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام: 145]، يعني: رَفَض ابنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما القَولَ بتحريمِ لُحومِ الحُمُرِ الأهلِيَّةِ، واستدَلَّ بالآيةِ المذكورةِ، فلا يَحرُمُ شَيءٌ إلَّا ما حرَّمهُ اللهُ أو رَسولُهُ بِالوَحْيِ، وقولُه: «البَحْرُ» صِفةٌ لابنِ عبَّاسٍ؛ لبَيانِ سَعَةِ عِلْمِه وفِقْهِه عن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأنَّ قولَه مُقدَّمٌ. ومعنى الآية: يَأمُرُ اللهُ نبيَّه محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يقولَ للمُشركينَ الَّذين حَرَّموا ما رَزَقَهم اللهُ تعالَى افتراءً عليه: إنَّه لا يجِدُ فيما أَوْحاه اللهُ تعالى إليه شَيئًا مُحَرَّمًا أَكْلُه -مِمَّا زَعَمُوا أنَّ اللهَ حَرَّمَه- إلَّا أنْ يكونَ مَيْتةً أو دمًا مَسفوحًا، أو لَحْمَ خِنْزيرٍ؛ فإنَّ هذه الأشياءَ الثَّلاثةَ خَبَث ونَجَسٌ مُستَقْذَرٌ، وإلَّا أنْ يَكونَ مِمَّا ذُبِحَ لغَيرِ الله؛ فإنَّه خُروجٌ عن طاعَةِ اللهِ إلى مَعْصِيَته والكُفْرِ به، فمَنْ أَلْجَأَتْه الضَّرورةُ لأكْلِ إحدى هذه المُحَرَّماتِ، وهو غيرُ مُريدٍ لِأكْلِها تلذُّذًا مِن غَيرِ اضْطرارٍ، ولا مُتجاوِزٍ ما أباحَه اللهُ منها؛ فهذا لا حَرَجَ عليه في الأكْلِ منها؛ فإنَّ اللهَ غفورٌ رحيمٌ. وظاهِرُ هذه الآيةِ الكريمةِ يقتضي أنَّه ليس هناك محرَّمٌ مِنَ المطعوماتِ سِوى هذه الأربعةِ، لكِنَّا نَعلَمُ في الشَّرعِ أنَّ هناك مطعوماتٍ أُخرى قد حَرَّم على المسلِمِ تناوُلَها، وعليه فالحَصرُ هنا غيرُ مقصودٍ.
وفي الصَّحيحَينِ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنْهُما، أنه قال: «لا أَدْري أَنَهى عنْهُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِنْ أَجلِ أنَّه كانَ حَمُولَةَ النَّاسِ فكَرِهَ أن تَذْهبَ حَمولَتُهُم, أو حرَّمَهُ في يومِ خَيبرَ لَحْمَ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ»، وفي هذا بَيانُ أنَّ الشَّكَّ والتَّردُّدَ في التَّحريمِ كان قائمًا عندَ ابن عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما، وقد ذُكِر تَحريمُها في أكثَرَ مِن حَديثٍ، كما في الصَّحيحَينِ عنْ أبي ثَعْلبةَ رضيَ اللهُ عنهُ قالَ: «حرَّمَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لحومَ الحُمُرِ الأَهليَّةِ»، وفيهما أيضًا عن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: «لَمَّا فتَحَ رَسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيبَرَ، أصَبْنا حُمُرًا خارِجًا مِنَ القريةِ، فطَبَخْنا منها، فنادى مُنادي رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ألا إنَّ اللهَ ورَسولَه يَنهَيانِكم عنها؛ فإنَّها رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطانِ».
وفي الحَديثِ: السُّؤالُ عمَّا أشْكَلَ وما اختَلَفَ فيه أصْحابُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.