‌‌باب ما جاء في اشتراط ظهر الدابة عند البيع

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في اشتراط ظهر الدابة عند البيع

حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا وكيع، عن زكريا، عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله أنه «باع من النبي صلى الله عليه وسلم بعيرا واشترط ظهره إلى أهله»: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن جابر والعمل على هذا عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم: يرون الشرط في البيع جائزا إذا كان شرطا واحدا، وهو قول أحمد، وإسحاق وقال بعض أهل العلم: لا يجوز الشرط في البيع، ولا يتم البيع إذا كان فيه شرط
‌‌

كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُراعي أصحابَه في كُلِّ أحوالِهم؛ مِنَ اليُسرِ والعُسرِ، والفَرَحِ والحُزنِ، فيُواسي الحَزينَ، ويُعطي المُحتاجَ، ويُشارِكُ صاحِبَ الفَرَحِ في فَرَحِه، ويَنصَحُ كُلَّ إنسانٍ بما يُناسِبُ حالَه.
وفي هذا الحَديثِ يَروي جابِرُ بنُ عَبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه غَزا مَعَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، قيلَ: كان ذلك في فَتحِ مَكَّةَ، وأنَّهم كانوا راجِعينَ منها إلى المَدينةِ، فلَحِقَ به صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأدرَكَه وهو راكِبٌ عَلى ناضِحٍ، وهو الجَمَلُ الذي يُحمَلُ عليه الماءُ ويُنقَلُ مِن مَكانٍ لِآخَرَ؛ لِلشُّربِ أو سَقْيِ الزَّرعِ. وكان هذا الجَمَلُ الذي يَركَبُ عليه جابِرٌ قَد عَيِيَ، أي: أصابَه الإعياءُ والتَّعَبُ وعَجَزَ عنِ المَشْيِ، فلا يَكادُ يَسيرُ، فسَأَلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ماذا أصابَ بَعيرَكَ؟ فأجابَه بأنَّه جَمَلٌ قدْ ضَعُفَ، فتَأخَّرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى كانَ خَلْفَ الجَمَلِ، فزَجَرَه، أي: ضَرَبَه بعَصًا أو سَوطٍ، ودَعا له بالقُوَّةِ والبَرَكةِ، فكانَ ذلك سَبَبًا في أنْ يُسرِعَ الجَمَلُ ويَشتَدَّ في السَّيرِ، فما زالَ الجَمَلُ مُتقَدِّمًا ومُسرِعًا بيْنَ يَدَيِ الإبِلِ يَسيرُ أمامَها، وَعْدَ وقْتٍ مِنَ السَّيرِ لَقيَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جابِرًا رَضيَ اللهُ عنه، فسَأَلَه: كيف تَرَى بَعيرَكَ في مَشيِه وإسراعِه؟ فأجابَه جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه بأنَّ الجَمَلَ بخَيرٍ، قدْ أصابَتْه بَرَكتُكَ.
ثمَّ سَأَلَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يَبيعَ جَمَلَه له، فاسْتَحْيا جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه منه، ولم يَكُنْ له جمَلٌ غَيرُه، فأجابَه: نَعَمْ. فباعَه إيَّاه على أنَّ له «فَقارَ ظَهرِه»، أي: الرُّكوبَ عليه إلى أنْ يَبلُغَ المَدينةَ.
ثمَّ أخبَرَ جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه عَروسٌ قَريبُ عَهدٍ بالدُّخولِ على زَوجَتِه، وفي هذا بَيانٌ لِفَضلِ جابِرٍ، حيثُ خَرَجَ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِلجِهادِ وهو عَرُوسٌ.

واستأذَنَه في أنْ يَسبِقَهم إلى المَدينةِ، فأذِنَ له صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلمَّا أتى المَدينةَ لَقيَه خالُه، واسمُه ثَعلَبةُ بنُ غَنَمةَ، فسَألَه عنِ البَعيرِ، فأخبَرَه بما صَنَعَ فيه، وأنَّه باعَه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فلامَه على بَيعِه مِن جِهةِ أنَّه لَيسَ له ناضِحٌ غَيرُه، وقد كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَأَلَه حِينَ استأذَنَه في التَّقَدُّمِ إلى المَدينةِ: هَلْ تَزَوَّجتَ بِكْرًا أمْ تَزَوَّجتَ ثَيِّبًا؟ والبِكْرُ هي التي لم يَسبِقْ لها الزَّواجُ، والثَّيِّبُ: هي التي سَبَقَ لها الزَّواجُ. فأجابَه جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه: تَزَوَّجتُ ثَيِّبًا، وكانَ اسمُها سُهَيلةَ بِنتَ مُعَوِّذٍ الأوْسيَّةَ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: هَلَّا تَزَوَّجتَ بِكْرًا تُلاعِبُها وتُلاعِبُكَ؟ وذلك لِأنَّ الثَّيِّبَ قد تَكونُ مُتَعلِّقةَ القَلبِ بزَوجِها الأوَّلِ، بخِلافِ الصَّغيرةِ التي لم يَسْبِقْ لها الزَّواجُ؛ فإنَّ قَلبَها في الأغلَبِ يَتعَلَّقُ بأوَّلِ زَوجٍ لها، فتَنشَطُ له وتَسعى في سَعادَتِه، وغَيرِ ذلك مِنَ المُواصَفاتِ التي تُعرَفُ بها البِكْرُ، وتَتقَدَّمُ بها على الثَّيِّبِ، فبَيَّنَ جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه لِلنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ والِدَه قدِ استُشهِدَ، وكان ذلك في غَزوةِ أُحُدٍ، وتَرَكَ له أخَواتٍ صِغارًا، قال: فَكَرِهتُ أن أتَزَوَّجَ بِكْرًا صَغيرةً مِثلَهنَّ، فلا تُؤَدِّبَهُنَّ ولا تَقومَ عليهِنَّ، فتَزَوَّجتُ ثَيِّبًا؛ لِتَقومَ عليهِنَّ وتُؤَدِّبَهُنَّ.
فلمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ المَدينةَ، ذَهَبَ إليه جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه بالجَمَلِ في أوَّلِ النَّهارِ، فأعطاهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَمَنَ الجَمَلِ، وأعطاهُ الجَمَلَ هِبةً منه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأعطاهُ نَصيبَه وسَهْمَه مِنَ الغَنيمةِ مع القَومِ، كما في رِوايةٍ في البُخاريِّ. وهذا مِن جَميلِ جُودِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وكَرَمِه وسَخائِه مع أصحابِه رِضوانُ اللهِ عليهم.
وفي الحَديثِ: بَيانٌ لِجانِبٍ مِن تواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وحُسْنِ عِشرَتِه لِأصحابِه، وتَفقُّدِه لِأحوالِهم، ورِعايَتِه لِمَصالِحِهم.
وفيه: فَضيلةٌ لِجابِرٍ رَضيَ اللهُ عنه، وشَفَقَتُه على أخَواتِه، وإيثارُه مَصلَحَتَهُنَّ على حَظِّ نَفْسِه.
وفيه: خِدمةُ المَرأةِ لِأهلِ زَوجِها، ورِعايَتُها لِأخَواتِه.