‌‌باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الرجل يتصدق أو يعتق عند الموت

حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، أن عائشة أخبرته، أن بريرة جاءت تستعين عائشة في كتابتها ولم تكن قضت من كتابتها شيئا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون لي ولاؤك فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك ويكون لنا ولاؤك فلتفعل، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابتاعي فأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق»، ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله؟ من اشترط شرطا ليس في كتاب الله فليس له، وإن اشترط مائة مرة»: هذا حديث حسن صحيح وقد روي من غير وجه عن عائشة والعمل على هذا عند أهل العلم أن الولاء لمن أعتق
‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌+_________‌‌_________‌‌_________‌‌_________‌‌

حثَّ الشَّرعُ على عِتْقِ المماليكِ، وجعَلَ ثَوابَ مَن أعتَقَ رقَبةً خالصةً للهِ أنْ يُعتِقَه اللهُ مِن النَّارِ، وقد نظَّم الشَّرعُ أُمورَ العِتقِ وما يَتبَعُه مِن عَلاقاتِ وَلاءٍ ومِيراثٍ تَنشَأُ بيْن المُعتِقِ والمُعتَقِ الَّذي تمَّ تَحريرُه.وفي هذا الحَديثِ تَحكي عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ بَرِيرَةَ بنتَ صَفوانَ رَضيَ اللهُ عنها -وكانتْ مَوْلاةً لعائشةَ- أتتْ إليها تَستعينُ بها على أداءِ ما كاتَبَتْ عليه مالِكَها، والمُكاتَبةُ أنْ يَتعاقَدَ العبدُ مع سيِّدِه على قَدْرٍ مِن المالِ إذا أدَّاهُ أصبَحَ حرًّا، فأخْبَرَتْها عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّها تُعِينُها على المالِ، ولكنْ بشَرْطِ أنْ يكونَ وَلاءُ بَريرةَ بعْدَ عِتْقِها لعائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، والوَلاءُ عبارةٌ عن تَناصُرٍ يُوجِبُ الإرثَ، بمعنى أنَّ هذا العبدَ لو مات ولم يكُن له وارِثٌ فإنَّ مُعتِقَه يَرِثُه بالوَلاءِ؛ فالوَلاءُ كالنَّسَبِ، ولكنَّ مُلَّاكَ بَريرة قالوا لعائشةَ كَلامًا شكَّ فيه سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ مِن رُواةِ الحديثِ، فذكَرَ مرَّةً أنَّهم قالوا لها: «إنْ شِئتِ أعْطَيْتِها ما بقِيَ»، فتَفضَّلْتِ على بَريرةَ بدَفْعِ الذي بقِيَ مِن مالِ الكتابةِ في ذِمَّتِها، ومرَّةً قال: إنْ شِئتِ أَعْتَقْتِها، ويكونُ الوَلاءُ لنا، فلمَّا جاء رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذكَّرتْ له عائشةُ رَضيَ اللهُ عنها النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بما حدَث مع بَريرةَ، فأمر النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عائشةَ أنْ تَشترِيَ بَريرةَ مِن مالِكِيها وتُعتِقَها، وأخْبَرَها أنَّ الولاءَ لِمَن أعتَقَ، وهذا حكْمُ الشَّرعِ، ثمَّ قام رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على المِنبرِ في مَسجدِه، فقال: «ما بالُ أقوامٍ»، أي: وما شَأنُهم؟ ولماذا يَفعلونَ ذلك؟ «يَشترِطونَ شُروطًا ليستْ في كتابِ اللهِ»، ولا تُوافِقُ شَرْعَ اللهِ تعالى وحُكمَه مِن كتابٍ أو سُنَّةٍ، وهذا تَعريضٌ مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ حتَّى لا يَتحرَّجَ فاعلُ ذلك، وإشعارٌ للناسِ بِتَعميمِ الأمرِ وأنَّ كثيرًا مِن الناسِ يَفعَلونه، فيَتوارَى الفاعلُ الأصليُّ فلا يُصيبُه الحرَجُ بيْن الناسِ، وإنَّما يَعلَمُ ويَتعلَّمُ.ثمَّ أخبَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَن اشترَطَ شَرْطًا ليس في كِتابِ اللهِ، فليس له ذلك الشَّرْطُ ولا يَستحِقُّه، «وإنِ اشترَطَ مئةَ مرَّةٍ» فذكَرَ المئةَ؛ للمُبالغةِ في الكثرةِ، لا أنَّ هذا العددَ بعَينِه هو المرادُ.

وفي الحديثِ: حُسْنُ عِشرةِ الإمامِ مع رَعيَّتِه؛ فإنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَمَّا خطَب لم يُواجِهْ صاحبَ الشَّرْطِ بعَينِه؛ لأنَّ المقصودَ يَحصُلُ له ولغيرِه بدونِ فَضيحةٍ وشَناعةٍ عليه.

وفيه: خُطبةُ الإمامِ عندَ وُقوعِ خَطأٍ، وتَبيينُه للنَّاسِ حُكْمَ ذلك وإنكارُه عليهم.

وفيه: المُبالغةُ في إزالةِ المنكَرِ، والتَّغليظُ في تَقبيحِه.

وفيه: مَشروعيَّةُ تَعليمِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ المُتعلِّقةِ بأُمورِ الدُّنيا -مِثْل أُمورِ البيعِ والشِّراءِ في المسجدِ- وبَيانِ أحكامِها.