‌‌باب ما جاء في الرياء والسمعة2

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في الرياء والسمعة2

حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا عبد الله بن المبارك قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال: أخبرني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدني، أن عقبة بن مسلم، حدثه أن شفيا الأصبحي، حدثه أنه، دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال: من هذا؟ فقالوا: أبو هريرة، فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس، فلما سكت وخلا قلت له: أسألك بحق وبحق لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته، ثم نشغ أبو هريرة نشغة فمكثنا قليلا ثم أفاق، فقال: لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم أفاق فمسح وجهه فقال: أفعل، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره، ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة، ثم مال خارا على وجهه فأسندته علي طويلا، ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يدعو به رجل جمع القرآن، ورجل قتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب. قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: إن فلانا قارئ فقد قيل ذاك، ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردت أن يقال: فلان جواد فقد قيل ذاك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء ، فقد قيل ذاك "، ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: «يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة» وقال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عقبة بن مسلم «أن شفيا، هو الذي دخل على معاوية فأخبره بهذا» قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم، أنه كان سيافا لمعاوية فدخل عليه رجل، فأخبره بهذا عن أبي هريرة، فقال معاوية: " قد فعل بهؤلاء هذا فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هالك، وقلنا قد جاءنا هذا الرجل بشر، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه، وقال: صدق الله ورسوله {من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون} [هود: 16] ": «هذا حديث حسن غريب»

اللهُ سُبحانَه وتعالى غنيٌّ عن عِبادِه، ولا يقبَلُ منهم الشِّركَ في القولِ أو العملِ، ولا يقبَلُ إلَّا ما كان خالِصًا لوجْهِه سُبحانَه.
وفي هذا الحديثِ يُخبِرُ أبو هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: "إنَّ اللهَ تَبارَكَ وتعالى إذا كان يومُ القِيامةِ" أي: إذا جاءَ ووقَع يومُ القِيامةِ "ينزِلُ إلى العِبادِ" وهو نزولٌ يَليقُ بجَلالِه سُبحانَه، ويُنزَّه عن التَّمثيلِ والتَّشبيهِ، ولا يَعلمُ كَيفيَّتَه إلَّا هو سبحانه؛ "ليَقْضِيَ بينهم"، أي: ليَفصِلَ ويحكُمَ بينهم، "وكلُّ أُمَّةٍ جاثيةٌ"، أي: بارِكةٌ على الرُّكَبِ خوفًا من اللهِ، ومن الحِسابِ والموقفِ، "فأوَّلُ مَن يَدْعو به"، أي: أوَّلُ مَن يُستدَعَى للحِسابِ، "رجُلٌ جمَعَ القُرآنَ"، أي: حفِظَه بألفاظِه وأحكامِه، "ورجُلٌ قُتِلُ في سَبيلِ اللهِ"، أي: قُتلَ في الظَّاهِرِ مِن أجْلِ إعْلاءِ كَلمَةِ اللهِ في الجِهادِ، "ورجُلٌ كثيرُ المالِ، فيقولُ اللهُ للقارئِ: ألَمْ أُعلِّمْك ما أنزلْتُ على رسولي؟" وهذا استِفهامُ تَقريرٍ مِنَ اللهِ للعبْدِ بما أنعَمَ عليه، "قال: بلى يا ربِّ"، فيكونُ قد أقَرَّ بما علَّمَه اللهُ، وأنَّه كان عالِمًا وليس جاهلًا، فيُعذَرُ بجهْلِه، فقال اللهُ عَزَّ وجَلَّ: "فماذا عمِلْتَ فيما عُلِّمْتَ؟"، أي: ما الَّذي عمِلتَه بالقُرآنِ وفيمَ بذَلْتَه؟ وكيفَ طبَّقْتَ أحكامَه؟ قال الرَّجلُ: "كنتُ أقومُ به آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ"، أي: أقومُ وأعمَلُ بقِراءتِه في اللَّيلِ والنَّهارِ، بتِلاوتِه في الصَّلاةِ وغيرِها، أو أتْلُوه باللَّيلِ في الصَّلاةِ وأقُومُ بأحكامِه وأوَامِرِه بِالنَّهارِ في مُعاملاتِ النَّاسِ، "فيقولُ اللهُ له: كذبْتَ!"؛ لأنَّ اللهَ أعلَمُ بالسَّرائرِ وما في القُلوبِ، "وتقولُ الملائكةُ: كذبْتَ!" تصديقًا لقولِ اللهِ تعالى، "ويقولُ له اللهُ: بلْ أردْتَ أنْ يُقال: فلانٌ قارئٌ، فقد قيلَ ذلك"، أي: كان مُرادُك الرَّياءَ والسُّمعةَ، وقد نِلْتَها في الدُّنيا، ولم يكُنْ فِعْلُك ابتغاءَ وجْهِ اللهِ.
قال: "ويُؤْتَى بصاحبِ المالِ، فيقولُ اللهُ: ألَمْ أُوسِّعْ عليك" بِزيادةِ المالِ والنِّعمةِ عليكَ "حتَّى لم أدَعْك تحتاجُ إلى أحدٍ؟ قال: بلى يا ربِّ" وهذا إقْرارٌ مِنَ العبدِ بِنعمةِ اللهِ عليه، "قال فماذا عمِلْتَ فيما آتيتُك؟ قال: كنتُ أصِلُ الرَّحمَ وأتصدَّقُ"، أي: يُظهِرُ للهِ أنَّه أنفَقَه في وُجوهِ البِرِّ؛ لابتغاءِ مَرضاتِه، وطلَبِ مَثوبتِه، وهذا في الظَّاهرِ من أفعالِه، "فيقولُ اللهُ له: كذبْتَ! وتقولُ الملائكةُ له: كذبْتَ! ويقولُ اللهُ: بلْ أردْتَ أنْ يُقال: فلانٌ جوَادٌ، وقد قِيل ذلك"، أي: كان مُرادُك الرِّياءَ والسُّمعةَ بأنْ يُقال بأنَّك سَخيٌّ وتُنفِقُ في هذه الوُجوهِ، لِلظُّهورِ بَينَ النَّاسِ، وقدْ نِلْتَ مَا أرَدْتَ وكانَ ذَلكَ جَزاءَكَ في الدُّنْيَا، "ويُؤْتَى بالَّذي قُتِلَ في سَبيلِ اللهِ، فيقولُ اللهُ له: في ماذا قُتِلْتَ؟" أي: في أيِّ شَيءٍ وَقَعَ قتْلُك في الدُّنْيا، "فيقولُ: أُمِرْتُ بالجهادِ في سبيلِك، فقاتلْتُ حتَّى قُتِلْتُ" يَزعُم أنَّه فعَلَ ذلك لطلَبِ مَرضاتِه، ورجاءِ مَثوبتِه، "فيقولُ اللهُ له: كذبْتَ!" وهَذا بِعلْمِ اللهِ بحقيقةِ ما كَانَ في قلْبِه "وتقولُ له الملائكةُ: كذبْتَ!" وهذا تصديقٌ مِنَ الملائكةِ للهِ تعالى، "ويقولُ اللهُ: بلْ أردْتَ أنْ يُقال: فُلانٌ جريءٌ"، أي: ليتحَدَّثَ النَّاسُ، ويقولوا عنكَ: إنَّك شُجاعٌ، "فقد قيل ذلك"، أي: قال النَّاسُ ذلك، واستوفيْتَ ما طلبْتَ، فكانَ ذلِكَ جزاءَكَ في الدُّنيا؛ فلا أجْرَ لك عندي.
قال أبو هُريرةَ رضِيَ اللهُ عنه: "ثمَّ ضرَبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على رُكْبتي، فقال: يا أبا هُريرةَ، أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خلْقِ اللهِ تُسعَّرُ بهم النَّارُ"، أي: تَشتعِلُ عليهم النَّارُ "يومَ القيامةِ".
وقيل: إنَّما كان هؤلاء الثَّلاثةُ أوَّلَ خلْقِ اللهِ تعالى تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ لكونِ هذه العِباداتِ (الجهاد، وتعلُّم القُرآنِ وتَعليمه، والإنفاق) رَفيعةَ القدْرِ عندَ اللهِ تعالى؛ فلمَّا لم يَبتَغِ أصحابُها بها وجْهَ اللهِ تعالى، بلْ طلَبوا بها العاجِلَ في الدّنْيَا، وآثَروا الفانِيَ فيها على الباقي في الآخِرةِ؛ فجازاهم اللهُ تعالى بأنْ جعَلَهم أوَّلَ مَن تُسعَّرُ بهم النَّارُ؛ إذ العِقابُ على قدْرِ عِظَمِ الجُرْمِ.
وفي الحديثِ: التَّحذيرُ من الرِّياءِ، وبَيانُ شِدَّةِ عُقوبتِه.
وفيه: أنَّ العُموماتِ الواردةَ في فضْلِ الجهادِ في سبيلِ اللهِ تعالى، إنَّما هي لمَن أراد به وجْهَ اللهِ تعالى.
وفيه: أنَّ الثَّناءَ الواردَ على العُلماءِ والمُنْفِقين في وُجوهِ الخيراتِ، كلُّه محمولٌ على مَن فعَلَ ذلك كلَّه ابتغاءَ وجْهِ اللهِ تعالى، مُخْلِصًا، لا يَشوبُه شَيءٌ من الرِّياءِ والسُّمعةِ، ونحوِ ذلك.