باب ما جاء في الزهادة في الدنيا2
سنن الترمذى
حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عمر بن يونس هو اليمامي قال: حدثنا عكرمة بن عمار قال: حدثنا شداد بن عبد الله، قال: سمعت أبا أمامة، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا ابن آدم إنك إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك، ولا تلام على كفاف، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السفلى»: «هذا حديث حسن صحيح وشداد بن عبد الله يكنى أبا عمار»
في هذا الحديثِ تَوجيهٌ نَبويٌّ للإنسانِ بعَدَمِ إمساكِ الأموالِ واكتِنازِها، وتَوجيهُ الأَنفُسِ إلى البذْلِ والعطاءِ، وعَدمِ سُؤالِ النَّاسِ؛ فيقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «يا ابنَ آدَمَ» وهذا نِداءٌ مِنَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم لِبَني آدَمَ كلِّهم، وإنْ كان تَوجيهُه يَنْصَبُّ على المسلِمينَ مِن أُمَّتِه، أنْ تُخرِجَ الفضلَ الزَّائِدَ عن حاجَتِكَ مِن مالِكَ نَفقةً وصدَقةً في سَبيلِ اللهِ، «خيْرٌ لك» في الدُّنيا والآخِرَةِ؛ لِبَقاءِ ثَوابِه، وإمساكُ ذلك الفضلِ ومَنْعُه «شَرٌّ لك» عندَ اللهِ وعندَ النَّاسِ؛ لأنَّه إنْ أَمْسَكَ عن الواجِبِ استَحَقَّ العِقابَ عليه، وإنْ أمسَكَ عنِ المَندوبِ فقدْ نَقَص ثَوابَه، وفوَّت مَصْلحةَ نفْسِه في آخِرَتِه، وهذا كلُّه شَرٌّ.
ثمَّ قرَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ الإنسانَ لا يُلامُ على إمساكِ ما يَكفِيه ومَن يَعُولُ، ويَحفَظُ عليه نَفقتَه على أهْلِه خَشيةَ سُؤالِ النَّاسِ، والكَفافُ مِنَ الرِّزقِ: هو القُوتُ، وما كَفاه عن سُؤالِ النَّاسِ وأغنَى عنهم مع القَناعَةِ، ولا يَزِيدُ على قَدْرِ الحاجَةِ.
ثُمَّ يُرشِدُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إلى أنْ نَبدأَ بمَن نَعُولُ مِنَ النَّفْسِ والأهلِ والولَدِ؛ فإنَّ أفضَلَ الصَّدقةِ ما أخرَجه الإنسانُ مِن مالِه بعْدَ القِيامِ بحُقوقِ النَّفْسِ والعيالِ، بحيثُ لا يَصيرُ المتصَدِّقُ مُحتاجًا بعْدَ صدَقتِه إلى أحدٍ؛ ففي قولِه: «وابدَأْ بمَن تَعولُ» دَليلٌ على أنَّ النَّفَقةَ على الأهلِ أفضَلُ مِنَ الصَّدَقةِ؛ لأنَّ الصَّدقةَ تطَوُّعٌ، والنَّفَقةَ على الأهلِ فَريضةٌ، وهذا كلُّه مِن التَّربيةِ النَّبويَّةِ على العَفافِ والرِّضا، وتَرتيبِ الأولَويَّاتِ في النَّفقةِ؛ حتَّى يَكفِيَ المرءُ أهْلَه ومَن تَلزَمُه نفَقتُه، ثمَّ يَتَصدَّقَ عن ظَهرِ غِنًى.
ثمَّ قرَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم تقريرًا إرشاديًّا فقال: «واليَدُ العُلْيا»، وهي المُنفِقةُ «خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى»، أَي: السَّائِلةِ أو الآخِذةِ.
وفي الحديثِ: إرشادٌ إلى إنفاقِ فضْلِ الأموالِ والزَّائدِ على الحاجةِ في وُجوهِ الخيرِ والبِرِّ.
وفيه: تَرتيبُ الابتِداءِ في النَّفقَةِ والعَطاءِ والصَّدقةِ بالأهَمِّ فالمُهِمِّ.