‌‌باب ما جاء في القسامة

سنن الترمذى

‌‌باب ما جاء في القسامة

حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث بن سعد، عن يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، قال يحيى: وحسبت عن رافع بن خديج، أنهما قالا: خرج عبد الله بن سهل بن زيد ومحيصة بن مسعود بن زيد حتى إذا كانا بخيبر تفرقا في بعض ما هناك، ثم إن محيصة وجد عبد الله بن سهل قتيلا قد قتل فدفنه، ثم أقبل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو وحويصة بن مسعود وعبد الرحمن بن سهل وكان أصغر القوم ذهب عبد الرحمن ليتكلم قبل صاحبيه، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كبر الكبر» فصمت وتكلم صاحباه ثم تكلم معهما، فذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مقتل عبد الله بن سهل، فقال لهم: «أتحلفون خمسين يمينا فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم؟» قالوا: وكيف نحلف ولم نشهد؟ قال: «فتبرئكم يهود بخمسين يمينا»، قالوا: وكيف نقبل أيمان قوم كفار، فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى عقله حدثنا الحسن بن علي الخلال قال: حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة، ورافع بن خديج، نحو هذا الحديث بمعناه. هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم في القسامة وقد رأى بعض فقهاء المدينة القود بالقسامة، وقال بعض أهل العلم من أهل الكوفة وغيرهم إن القسامة لا توجب القود، وإنما توجب الدية
‌‌

عَلَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الآدابَ كما عَلَّمنا أحكامَ الدِّينِ، وطَبَّق ذلك في مواقِفِ الحياةِ مع أصحابِه وغيرِهم ممَّن عاصروه من غيرِ المُسلِمين.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ، وَسَهْلُ بْنُ أبي حَثْمَةَ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ عبدَ الله بنَ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةَ بنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهما ذَهَبَا إلى خَيْبَرَ في حاجةٍ لهما، وخَيبَرُ: قَرْيةٌ كَبيرةٌ كان يَسكُنُها اليَهودُ، وكانت ذاتَ حُصونٍ ومَزارِعَ، على بُعدِ 173 كيلومترًا تَقْريبًا مِن المَدينةِ إلى جِهةِ الشَّامِ، فتفرَّقَا -أي: عبدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ ومُحَيِّصَةُ- في النَّخْلِ، فقُتِل عبدُ اللهِ بنُ سَهْلٍ، فوَجَده مُحَيِّصَةُ في عَيْنِ ماءٍ مَطْروحًا قد كُسِرت عُنُقُه وهو يَتَشَحَّطُ في دَمِه، فجاء عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ سَهْلٍ أَخُو عبدِ اللهِ المقتولِ، وحُوَيِّصَةُ وأخُوه مُحَيِّصَةُ ابنَا مَسْعُودٍ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فتَكلَّموا -أي الثَّلاثةُ- في أمرِ صاحبِهم عبدِ اللهِ المَقتولِ، فبَدَأ عبدُ الرَّحْمَنِ أخو القتيلِ بالكلامِ، وكان أصغرَ القومِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُعلِّمًا له: «كَبِّرِ الكُبْرَ»، أي: قَدِّمِ الأكبرَ سِنًّا فلْيَتكلَّمْ هو؛ إرشادًا إلى الأدَبِ في تقديمِ الأسَنِّ، وذلك لِيَتكلَّموا في تَحقيقِ صُورةِ القصَّةِ وكَيفيَّتِها، فتَكلَّموا فيما وقع لصاحِبِهم من القَتلِ في خيبرَ دونَ معرفةِ القاتِلِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَتستحِقُّون قَتِيلَكم»، أي: تأخُذون دِيَتَه، «أو قال: صاحِبَكم» الشَّكُّ من أحدِ رُواة الحديثِ، «بِأَيْمَانِ خمسين» رجُلًا «منكم؟» يحلِفون أنَّ فلانًا قتَلَه، فيُحَدِّدونه شخصًا إن كانوا متأكِّدين من ذلك، قالوا: «يا رسولَ الله، أْمرٌ لم نَرَهُ» فكيف نَحلِفُ عليه؟ فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «فَتُبْرِئُكُمْ»، أي: تُخَلِّصُكم «يَهُودُ» خيبرَ مِن اليَمِين «في أَيْمَانِ خَمْسين» رجلًا «منهم» فيَحلِفون أنَّهم لا يَعلَمونَ القاتِلَ، وتَبْرَأُ إليكم مِن دَعْواكم؟ قالوا: «يا رسولَ الله، قومٌ كُفَّارٌ» فكيف نَأخُذُ بأَيْمَانِهم؟ والحاصلُ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَدَأ بالمُدَّعِينَ في الأَيْمَانِ، فلمَّا نَكَلُوا رَدَّها على المُدَّعَى عليهم، فلمْ يَرْضَوْا بأَيْمَانِهم، «فوَدَاهُم»، أي: أعطاهُم رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دِيَتَه مِن عندِه، أو مِن بَيْتِ المالِ.
ويَحكِي سَهْلُ بنُ أبي حَثْمَةَ أنَّه أدْرَكَ ناقةً مِن تلك الإبلِ التي أعطاها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دِيَةً لأهلِ القَتِيل، «فدَخَلَت» النَّاقةُ «مِرْبَدًا لهم»، والمِرْبَدُ: الموضعُ الذي تَجتمِعُ فيه الإبلُ فرَكَضَتْه بِرِجْلِها، أي: رَفَسَتْه.
وفي الحَديثِ: إكرامُ الكَبيرِ، وابتداءُ الأكْبرِ بالكلامِ والسُّؤالِ.
وفيه: فضيلةُ السِّنِّ عند التساوي في الفَضائِلِ.
وفيه: مُرَاعَاةُ الإمامِ للمَصالِحِ العامَّةِ، والاهتمامُ بإصلاحِ ذاتِ البَينِ، وقطْعُ النِّزاعِ بيْن المُتنازِعين وجَبْر خَواطرِهم.