باب ما جاء في درء الحد عن المعترف إذا رجع2
سنن الترمذى
حدثنا بذلك الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بن عبد الله، أن رجلا من أسلم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف بالزنا فأعرض عنه، ثم اعترف، فأعرض عنه، حتى شهد على نفسه أربع شهادات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبك جنون»، قال: لا، قال: «أحصنت؟»، قال: نعم، قال: فأمر به، فرجم بالمصلى، فلما أذلقته الحجارة فر، فأدرك، فرجم حتى مات، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ولم يصل عليه: هذا حديث صحيح والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم: أن المعترف بالزنا إذا أقر على نفسه أربع مرات أقيم عليه الحد، وهو قول أحمد، وإسحاق وقال بعض أهل العلم: إذا أقر على نفسه مرة أقيم عليه الحد، وهو قول مالك بن أنس، والشافعي، وحجة من قال هذا القول حديث أبي هريرة، وزيد بن خالد، أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أحدهما: يا رسول الله، إن ابني زنى بامرأة هذا، الحديث بطوله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها»، ولم يقل فإن اعترفت أربع مرات
كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حَريصًا على مُراعاةِ حَقِّ اللهِ بإقامةِ حُدودِه وشَرائعِه، فمَن أصاب حدًّا واعترف أو قامت عليه بَيِّنةٌ أقامه عليه، ومَن ستَرَه اللهُ فأمْرُه إليه سُبحانَه.
وفي هذا الحَديثِ يَحكي أبو هُرَيْرةَ رضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا -واسْمُه ماعِزٌ- مِن قَبيلةِ أسْلَمَ -قبيلةٍ مِن قبائِلِ العَرَبِ- أتى إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو في المَسجدِ، فَناداه، فَقالَ: «يا رَسولَ اللهِ، إنَّ الْأَخِرَ قَدْ زَنى»، يَعْني نَفسَه، ومُرادُه: المُتَأَخِّرُ عن السَّعادةِ، أو الأَرْذَلُ، أو اللَّئيمُ، فَأَعْرَض النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنه ملتَفِتًا بوَجْهِه الشَّريفِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم للجِهةِ الأخرى، فتوجَّه ماعِزٌ رَضِيَ اللهُ عنه للجِهةِ التي إليها وَجْهُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونحا نحْوَها، وكرَّر الإقرارَ على نَفْسِه بالزِّنا، واستَمَرَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُعرِضُ عنه، ويتَّجِهُ ماعِزٌ إلى رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويكرِّرُ إقرارَه بالزِّنا، حَتَّى قالَها الرَّجُلُ أربعَ مرَّاتٍ، فَلمَّا شَهِدَ عَلى نَفسِه بالزِّنا أرْبَعَ شَهاداتٍ، دَعاه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وَسَأَلَه: «هَل بِك جُنونٌ؟» فَأَجابَه: لا. وإنما قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذلك؛ ليحقِّقَ حالَه، فإنَّ الغالِبَ أنَّ الإنسانَ لا يُصِرُّ على إقرارِ ما يقتضي هلاكَه، فَقالَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «اذْهَبوا بِه فارْجُموه» ولم يَرْجُمْه معهمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، والرَّجمُ هو الرَّمْيُ والقذْفُ بالحِجارةِ حتَّى الموتِ، وهو حدُّ مَن وقَعَ في الزِّنا بعْدَما أُحصِنَ بالزَّواجِ، وكانَ ماعزٌ رضِيَ اللهُ عنه قَد أُحْصِنَ.
وفي روايةٍ عن جابِرِ بنِ عَبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما أنَّه كان فيمَن رَجَمَه بالمُصَلَّى بالمَدينةِ، فَلَمَّا «أَذْلَقَتْه الحِجارةُ»، أي: أقْلَقتْه وأَوجَعَتْه، «جَمَزَ» أي: أسرَعَ هارِبًا مِن القَتلِ، فأدْرَكوه بالحَرَّةِ فَرَجَمْوه حَتَّى ماتَ، والحَرَّةُ: مَكانٌ مَعروفٌ بالمَدينةِ مِن الجانِبِ الشَّماليِّ مِنه.
وفي الحَديثِ: فضيلةُ الصَّحابيِّ ماعِزٍ رَضِيَ اللهُ عنه بمسارعَتِه إلى التَّوبةِ وطَلَبِه إقامةَ الحَدِّ الذي فيه هَلاكُه.
وفيه: تأنِّي رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في إقامةِ الحَدِّ حتى يتحقَّقَ من التلَبُّسِ بالذَّنبِ.
وفيهِ: إقرارُ الزَّاني بالزِّنا أربعَ مرَّاتٍ، ثُمَّ إقامةُ الحدِّ علَيه بإقرارِه.
وفيهِ: بيانُ أنَّ حدَّ الزَّاني المُحصَنِ الرَّجمُ بالحِجارَةِ حتَّى المَوتِ.
وفيه: إشارةٌ إلى أنَّ إقرارَ المجنونِ باطِلٌ.