باب ما جاء في غسل الميت
سنن الترمذى
حدثنا أحمد بن منيع قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا خالد، ومنصور، وهشام، فأما خالد، وهشام فقالا: عن محمد، وحفصة، وقال منصور، عن محمد، عن أم عطية قالت: توفيت إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «اغسلنها وترا ثلاثا، أو خمسا، أو أكثر من ذلك، إن رأيتن، واغسلنها بماء وسدر، واجعلن في الآخرة كافورا، أو شيئا من كافور، فإذا فرغتن فآذنني»، فلما فرغنا آذناه، فألقى إلينا حقوه، فقال: «أشعرنها به» قال هشيم: وفي حديث غير هؤلاء، ولا أدري ولعل هشاما منهم قالت: وضفرنا شعرها ثلاثة قرون. قال هشيم: أظنه قال: «فألقيناه خلفها». قال هشيم، فحدثنا خالد من بين القوم، عن حفصة، ومحمد، عن أم عطية قالت: وقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء». وفي الباب عن أم سليم: «حديث أم عطية حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم» وقد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: «غسل الميت كالغسل من الجنابة»، وقال مالك بن أنس: «ليس لغسل الميت عندنا حد مؤقت، وليس لذلك صفة معلومة ولكن يطهر»، وقال الشافعي: إنما قال مالك قولا مجملا: يغسل وينقى وإذا أنقي الميت بماء قراح أو ماء غيره أجزأ ذلك من غسله، ولكن أحب إلي أن يغسل ثلاثا فصاعدا، لا يقصر عن ثلاث، لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اغسلنها ثلاثا أو خمسا»، وإن أنقوا في أقل من ثلاث مرات، أجزأ، ولا يرى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو على معنى الإنقاء ثلاثا أو خمسا ولم يؤقت، وكذلك قال الفقهاء وهم أعلم بمعاني الحديث، وقال أحمد، وإسحاق: وتكون الغسلات بماء وسدر ويكون في الآخرة شيء من كافور
للمَوتى المسلِمينَ حقُّ التَّغسيلِ والتَّكفينِ والدَّفنِ، وقد علَّمَنا النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كيفيَّةَ أداءِ هذه الحقوقِ، وسُنَنها وآدابَها.
وفي هذا الحَديثِ تَروي الصحابيَّةُ أمُّ عطيَّةَ الأنصاريَّةُ رَضيَ اللهُ عنها أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم دَخَلَ عليهِنَّ وهُنَّ يغسِلْنَ ابنتَه زَيْنبَ رَضيَ اللهُ عنها، وكانَت وفاتُها في أوَّلِ السَّنةِ الثَّامنةِ مِن الهِجرةِ، فأمَر مَن يَغسِلْنَها: أنْ يَبدأْنَ بمَيامِنِها ومَواضِع الوُضوءِ منها، وأنْ يغسِلْنَها وترًا؛ ثَلاثًا أو خَمسًا أو سَبْعًا، والمقصودُ من ذلكَ: أنَّ الغُسلَ يكونُ وِترًا بعددٍ مِن المرَّاتِ حتى يَتِمَّ التنظيفُ الجيِّدُ؛ فإنْ تَمَّ بِثلاثِ مرَّاتٍ -كما في الحديثِ- فإنَّه يَكفي، وإنْ كان لا يَكفي زِيدَ في عَددِ مرَّاتِ التَّغسيلِ، وهكذا وترًا حتى التَّنظيفِ التامِّ، وفي رَوايةٍ: أو أكثَرَ مِن ذلِك حَسَبَ الحاجةِ، بماءٍ وسِدْرٍ، بأنْ يُجعلَ السِّدْرُ في ماءٍ ويُخَضْخَضَ حتَّى تَخرُجَ رَغوتُه، ويُدلَّكَ به جَسدُ المَيتِ، والسِّدْرُ ورقُ شجرِ النَّبْقِ.
وأمَرَهُنَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أن يَضَعْنَ في الغَسلةِ الأخيرةِ شَيئًا مِن الكافورِ في الماءِ، والكافورُ نباتٌ طيِّبُ الرائحةِ، ومِن فوائدِه أنَّه يُطيَّبُ به المتوفَّى، ويُبرِّدُ الجَسدَ ويطرُدُ الهوامَّ عنه؛ ولذلكَ جُعِل في الغَسلةِ الأخيرةِ، حتَّى لا يُذهِبَه الماءُ.
ثمَّ أخبرَتْ أُمُّ عَطيَّةَ رضيَ اللهُ عنها أنَّهن قُمْنَ بتسويةِ شَعرِ المَيتةِ وتسريحِه، وجَعلِه ثَلاثَ ضَفائِرَ، ولَمَّا انتهَوْا مِن الغُسلِ أعْلَموا النبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على حسَبَ ما قد أمَرَهُنَّ به بقولِه: «فإذا فَرَغْتُنَّ فآذِنَّني»، فأعطاهم صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ "حِقْوَه"، أي: إزارَه؛ ليَجعَلْنَه شِعارًا لها، والشِّعارُ هو الثَّوبُ الَّذي يَلي الجَسَدَ فيَمَسُّ الجِلدَ، ولعلَّ هذا للتبرُّكِ به وليَكونَ رحمةً لها.
وفي الحديثِ: تَغسيلُ النِّساءِ للنِّساءِ.
وفيه: البَدءُ في غَسْلِ المَيتِ بالمَيامِنِ ومَواضِعِ الوُضوءِ. والتَّثليثُ في غَسْلِ المَيتِ، والزِّيادةُ على ذلِك حَسَبَ الحاجةِ.
وفيه: مَشروعيَّةُ غَسلِ المَيتِ بالماءِ والسِّدْرِ، ثُمَّ بالماءِ والكافورِ.
وفيه: أنَّه يُسرَّحُ شَعَرُ المَرأةِ، ويُضَفَّرُ ثَلاثَ ضَفائِرَ.
وفيه: تَكفينُ المَرأةِ في ثَوبِ الرَّجُلِ.
وفيه: التبرُّكُ بآثارِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ولِباسِه.