باب ما جاء في كراهية الفرار من الطاعون
سنن الترمذى
حدثنا قتيبة قال: حدثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن عامر بن سعد، عن أسامة بن زيد، أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الطاعون، فقال: «بقية رجز، أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل، فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها، وإذا وقع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا عليها» وفي الباب عن سعد، وخزيمة بن ثابت، وعبد الرحمن بن عوف، وجابر، وعائشة.: «حديث أسامة بن زيد حديث حسن صحيح»
الأمراضُ والأوبئةُ مِن أقدارِ اللهِ عزَّ وجلَّ، يُنزِلُها رَحمةً بالبعضِ، وعَذابًا للآخَرينَ، وعلى المسلمِ أنْ يُؤمِنَ بأقدارِ اللهِ عزَّ وجلَّ، ويَأخُذَ بأسبابِ النَّجاةِ قدْرَ استطاعتِه، ويَصبِرَ ويَرْجوَ مِن اللهِ الخيرَ.
وفي هذا الحديثِ يَذكُرُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الطَّاعونَ، ويُعلِّمُ أُمَّتَه سُبلَ التَّعامُلِ معه عندَ نُزولِه.
والطَّاعونُ: نَوعٌ مِن الوَباءِ المهلِكِ، وهو عبارةٌ عن خرّاجات وقروح وأورام رديئة تظهر بالجسم، وقيلَ: إنَّ الطَّاعونَ اسمٌ لكُلِّ وَباءٍ عامٍّ يَنتَشِرُ بسُرعةٍ، وقدْ سُمِّيَ طاعونًا لِسُرعةِ قَتْلِه.
وقدْ أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ الطَّاعونَ رِجْسٌ، أي: عَذابٌ، وأنَّ اللهَ أرسَلَه على طائفةٍ مِن بَني إسرائيلَ -أو على مَن كان قَبْلنا؛ شَكٌّ مِن أحَدِ رُواةِ الحديثِ- وقيل: هؤلاء همُ الَّذين أمَرَهم اللهُ تعالَى أنْ يَدخُلوا البابَ سُجَّدًا، فخالَفوا أمْرَه؛ قال تعالَى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 59]، أَرسَل اللهُ عليهم الطَّاعونَ، فماتَ منهم عددٌ كثيرٌ.
وهذا الوباءُ ليس خاصًّا بمَن قبْلَنا، بلْ نَزَلَ في هذه الأُمَّةِ أيضًا، ويَنْهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كلَّ مُسلمٍ عنِ الدُّخولِ إلى البلدِ الَّذي سَمِعَ بوُجودِ الطَّاعونِ فيه، وعن الخروجِ منه إذا كان في البَلَدِ التي وَقَعَ فيها الطَّاعونُ فِرارًا منه؛ لأنَّ الَّذي يَقدَمُ عليه قدْ يظُنُّ أنَّه كان ناجيًا لولا قُدومُه، والفارَّ منه قد يظُنُّ أنَّه كان سَيَموتُ لولا فِرارُه منه، فيَتعلَّقُ القلبُ بالأسبابِ، ويظُنُّ أنَّها تُحدِثُ نفْعًا أو ضَرًّا بذاتِها، والحقيقةُ أنَّه سُبحانَه وتعالَى قدَّر المقاديرَ، وكتَبَ على كلِّ نَفْسٍ رِزقَها وساعةَ مَوتِها، فلا تَبْديلَ لكلماتِ اللهِ تعالَى.
وقيل: عِلَّةُ النَّهيِ عن الفِرارِ مِن الطَّاعونِ أو القُدومِ عليه: أنَّ الإقدامَ عليه تَعرُّضٌ للبَلاءِ، ولعلَّه لا يَصبِرُ عليه، وربَّما كان فيه ضرْبٌ مِن الدَّعوى لمَقامِ الصَّبرِ، أو التَّوكُّلِ، فمُنِعَ ذلك لاغترارِ النَّفْسِ، ودَعواها ما لا تَثبُتُ عليه عندَ التَّحقيقِ، وأمَّا الفرارُ فقدْ يكونُ داخلًا في بابِ التَّوغُّلِ في الأسبابِ، مُتصوَّرًا بصُورةِ مَن يُحاوِلَ النَّجاةَ ممَّا قُدِّرَ عليه، فيَقَعُ التَّكلُّفُ في القدومِ، كما يَقَعُ التَّكلُّفُ في الفِرارِ، فأُمِرَ بتَرْكِ التَّكلُّفِ فيهما.
وفي رِوايةٍ: «لا يُخْرِجُكُمْ إلَّا فِرَارًا منه» فهو قَيدٌ للخُروجِ، واستُفِيدَ مِن ذلك أنَّ الخروجَ لغرَضٍ آخَرَ غيرِ الفرارِ -سَواءٌ كان تِجارةً، أو طَلَبَ عِلمٍ، أو حاجةً أُخرى- غيرُ مَمنوعٍ.
وقدْ جَعَلَ اللهُ سُبحانَه للمسلمِ الَّذي مات بالطَّاعونِ أجْرَ الشَّهيدِ في الآخرةِ، كما عندَ البُخاريِّ مِن حَديثِ عائشةَ رَضيَ اللهُ عنها، قال رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لَيس مِن أحَدٍ يقَعُ الطَّاعونُ، فيَمكُثُ في بَلَدِه صابِرًا مُحتسِبًا، يَعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كتَبَ اللهُ له؛ إلَّا كان له مِثلُ أجْرِ شَهيدٍ».
وفي الحديثِ: الاحترازُ مِن المَكارهِ وأسبابِها، والتَّسليمُ لقَضاءِ اللهِ تعالَى عندَ حُلولِ الآفاتِ.