باب ما ذكر في كذاب ثقيف ومبيرها

بطاقات دعوية

باب ما ذكر في كذاب ثقيف ومبيرها

عن أبي نوفل رأيت عبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - على عقبة المدينة (1) قال فجعلت قريش تمر عليه والناس حتى مر عليه عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - فوقف عليه فقال السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب السلام عليك أبا خبيب أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله إن كنت ما علمت لصواما قواما وصولا للرحم أما والله لأمة أنت أشرها لأمة خير ثم نفذ عبد الله بن عمر فبلغ الحجاج موقف عبد الله وقوله فأرسل إليه فأنزل عن جذعه فألقي في قبور اليهود (2) ثم أرسل إلى أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم - فأبت أن تأتيه فأعاد عليها الرسول لتأتيني أو لأبعثن إليك من يسحبك بقرونك (3) قال فأبت وقالت والله لا آتيك حتى تبعث إلي من يسحبني بقروني قال فقال أروني سبتي (4) فأخذ نعليه ثم انطلق يتوذف (5) حتى دخل عليها فقال كيف رأيتني صنعت بعدو الله قالت رأيتك أفسدت عليه دنياه وأفسد عليك آخرتك بلغني أنك تقول له يا ابن ذات النطاقين (5) أنا والله ذات النطاقين (6) أما أحدهما فكنت أرفع به طعام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وطعام أبي بكر من الدواب وأما الآخر فنطاق المرأة التي لا تستغني عنه أما إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدثنا أن في ثقيف كذابا ومبيرا فأما الكذاب فرأيناه (7) وأما المبير فلا إخالك إلا إياه قال فقام عنها ولم يراجعها. (م 7/ 190 - 191

ماجَتِ الفتنُ بعْدَ عَصرِ الخُلفاءِ الرَّاشدينَ وعَصَفَت بالمسْلِمين، ومِن ذلك ما وقَعَ بيْنَ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما وبيْنَ خُلفاءِ بَني أُميَّةَ بعْدَ أنْ ماتَ الخليفةُ مُعاويةُ بنُ يَزيدَ بنِ مُعاوِيةَ بنِ أبي سُفيانَ، ولم يُوَلِّ أحدًا، وبَقِي النَّاسُ لا خَليفةَ لهم، فعندَ ذلك بايَعَ النَّاسُ عبْدَ اللهِ بنَ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنه بالخلافةِ سَنةَ أربعٍ وسِتِّينَ، واجتَمَعَ على طاعتِه أهلُ الحجازِ واليمنِ والعراقِ وخُراسانَ، وحَجَّ بالنَّاسِ ثَمانيَ حِجَجٍ، فلمَّا تَولَّى عبدُ الملِكِ بنُ مَرْوانَ الحُكمَ في الشَّامِ، غَلَب على العراقِ، ثمَّ جَهَّزَ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ الثَّقفيِّ إلى ابنِ الزُّبيرِ، فقاتَلَه إلى أنْ قُتِل ابنُ الزُّبيرِ عامَ ثَلاثٍ وسَبعينَ.
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ أبو نَوفَلٍ بنُ أبي عَقْربٍ أنَّه رأى الصَّحابيَّ عبدَ اللهِ بنَ الزُّبَيْرِ رَضيَ اللهُ عنهما على عَقَبَةِ المدينةِ، والعَقَبةُ هي المكانُ العالي مِن الجبالِ، يُريدُ على عَقبَةِ في مكَّةَ واقعةٍ في طَريقِ أهلِ المدينةِ حِين يَنزلونَ مكَّةَ، وكان عبدُ اللهِ بنُ الزُّبَيْرِ مَصلوبًا هناك، بعْدَ أنْ قَتَله جَيشُ بَني أُميَّةَ بقِيادةِ الحَجَّاجِ بنِ يُوسُفَ الثَّقفيِّ، فجَعَلَتْ قُريشٌ تَمرُّ على ابنِ الزُّبَيْرِ رَضيَ اللهُ عنهما وسائرُ النَّاسِ مِن غيرِ قُرَيشٍ يَمرُّونَ عليه أيضًا وهو مَصلوبٌ لعِدَّةِ أيَّامٍ، حتَّى مرَّ عليه عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما فَوقفَ عنده، وقالَ: السَّلامُ عليكَ أَبا خُبَيْبٍ، وهي كُنيَةُ ابنِ الزُّبَيْرِ رَضيَ اللهُ عنهما، كُنِّيَ بِابْنِه خُبَيْبٍ أكبرِ أولادِه، وكرَّرَ السَّلامَ ثلاثَ مرَّاتٍ، ثمَّ قالَ: «لقدْ كُنتُ أَنهاكَ عَن هذا» وكرَّرَ مَقولتَه ثلاثَ مرَّاتٍ، وكأنَّه رَضيَ اللهُ عنه يَستحضِرُ ابنَ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما كأنَّه حَيٌّ أمامَه ويُراجِعُه في نَصيحتِه له، وتَرْكِ مُحارَبةِ بَني أُميَّةَ على أمرِ الخلافةِ؛ وذلك أنَّ ابنَ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما كان ممَّن اعْتَزَلوا تلك الفِتنَ، وبايَعَ عبْدَ الملِكِ بنَ مَرْوانَ لَمَّا استَقرَّ له الأمرُ، وكِلا الصَّحابيَّينِ كان في مَحلِّ اجتهادٍ.
ثمَّ أقسَمَ ابنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما مُبيِّنًا فضْلَ ومَناقبَ ابنِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما قائلًا: «أمَا واللهِ إنْ كنتَ» يا ابنَ الزُّبيرِ ما علِمْتُك إلَّا «صَوَّامًا»، أي: كثيرَ الصِّيامِ في النَّهارِ، «قوَّامًا» أي: كثيرَ القيامِ في اللَّيلِ، «وَصُولًا»، أي: مُبالِغًا في صِلةِ الرَّحمِ، ثمَّ أقسَمَ مرَّةً أُخرى قائلًا: «أمَا واللهِ لَأمَّةٌ أنتَ أَشرُّها» كما يَزعُمُ أعداؤكَ، فهي أُمَّةُ خَيرٍ، وحَقيقتُكَ أنَّكَ مِن أحْسَنِها، فإذا كُنتَ شرًّا كانت الأُمَّةُ كلُّها خيرًا، وذلك على ما كان في ابنِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما مِن صِفاتٍ وشَمائلَ حسَنةٍ لا يُنكرُها المُنصِفُونَ، ثُمَّ ذهبَ ومضى عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما عن مَكانِ صَلبِ ابنِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما، فَبلغَ الحجَّاجَ ما حَدَث مِن عبدِ اللهِ بنِ عُمرَ عندَ ابنِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهم، وكلامُه فيه، وكأنَّه خَشِي مِن تَأثيرِ هذا القولِ في الرَّعيَّةِ، واحتمالِ غَضْبتِهم للمَصلوبِ، فَأرسَلَ الحجَّاجُ وأمَرَ بإنزالِ ابنِ الزُّبَيْرِ رَضيَ اللهُ عنهما عَن جِذعِ الشَّجرةِ المُصلوبِ عليه، فدُفِن في قُبورِ اليهودِ، وهي مَوضعِ قُبورِهم الموجودةِ لمِن كان مِن سُكَّانِ مكَّةَ، أو مِن وَاردِيها مِن غيرِ أهلِها مِن اليهودِ ومات فيها في الجاهليَّةِ.
ثُمَّ أرسَلَ الحجَّاجُ إلى أمِّ عبدِ اللهِ بنِ الزُّبَيْرِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنهم، يَطلُبُها أنْ تَأتِيَ إليه، فَامتنعَتْ مِنَ الإتيانِ إليه، والوقوفِ لَديْه، فَأعادَ عليها الرِّسالةَ وأرسَلَ قائدًا على لِسانِه، فحَلَفَ وقالَ: «واللهِ لَتَأْتِيَنِّي أو لَأبعَثَنَّ إليكِ» أي: لَأُرسلَنَّ مَن يَسحَبُكِ ويَجرُّكِ «بِقُرونِكِ» أي: مِن ضَفائرِ شَعرِكِ، فامتَنَعَت أنْ تأتيَ إليه، وأقْسَمَتْ وقالتْ: «واللهِ لا آتيكَ»، أي: لا أَجيئُكَ حتَّى تبعثَ إليَّ مَنْ يَسحبُني بِقُرونيِ وبِضَفائرِ شَعري، فلمَّا عَلِمَ الحَجَّاجُ بذلكَ قالَ لمَن عِنده: «أَرُونِي سِبْتَيَّ»، أي: نَعْلَيَّ، والمعنى: ائْتوني بِهمَا أو قَدِّمُوهما لي، فَأخَذَ نَعلَيْه فَلَبِسَهما، ثُمَّ انطَلقَ وذَهَب إلى أسماءَ رَضيَ اللهُ عنها وهو «يَتوذَّفُ»، أي: يُسرِعُ، وقيلَ: يَتبَخْترُ، حتَّى دَخلَ عليها، فقال لها: «كيفَ رَأيْتِني؟» أي: كيْف وَجدْتِني صنَعْتُ بِعدُوِّ اللهِ؟ أرادَ بهذا الوصْفِ ابْنَها على زَعْمِه الفاسدِ، قالتْ أسماءُ رَضيَ اللهُ عنها: «رَأيتُكَ أفسدْتَ عليه دُنياه» بقَتلِه ظُلمًا، «وأفْسَدَ عليك آخِرتَكَ» بظُلمِكَ إيَّاه، ثُمَّ قالتْ: «بلَغَني» أي: ذَكَر لي النَّاسُ ونَقَلوا لي، أنَّكَ تقولُ لِولَدي عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما تَحقيرًا له في حَياتِه أو بعْدَ مَماتِه: «يا ابنَ ذاتِ النِّطاقَيْنِ» وهو لَقبُ أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضيَ اللهُ عنهما، والنِّطاقُ هو ما تَشُدُّ به المرأةُ وسَطَها عندَ مُعاناةِ الأشغالِ؛ لِتَرفَعَ به ثوبَها، أراد الحَجَّاجُ بقولِه: «ذاتِ النِّطاقينِ» تَعريضًا بإهانتِها بالخِدمةِ؛ لأنَّ الَّتي تَنتَطِقُ -أي تَتحزَّمُ- إنَّما هي الخادمُ لِتَقْوى على الخِدمةِ؛ ولذلك أجابَتْه بقَولِها: «أنا واللهِ ذاتُ النِّطاقَينِ» تُؤكِّدُ أنَّها صاحبةُ هذا اللَّقبِ، وأخَذَت تُبيِّنُ له السَّببَ؛ فقدْ كانت رَضيَ اللهُ عنها شَقَّت نِطاقَها نِصفينِ، فقالت: «أمَّا أحدُهما فكنْتُ أرفعُ به طعامَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وطعامَ أبي بكرٍ مِنَ الدَّوابِّ» أي: أَربطُ به سُفرةَ طَعامِهما في سَفرِ هِجرتِهما، وأُعلِّقُها مَرفوعةً على راحلتِهما؛ خَشيةً مِنَ الدَّوابِّ كَالفأرةِ والنَّملةِ ونحْوِهما، وأمَّا النِّصفُ الآخَرُ فَنِطاقُ المرأةِ الَّتي لا تَستغْنِي عنه لِخدمِتها المتعارَفَة في بيتِها الممدوحَةِ في حقِّها، فرَدَّت أسماءُ بذلك على زَعمِ الحَجَّاجِ؛ لأنَّ في خِدمتِها لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ورَبْطِها طَعامَه بنِطاقِها، ما لا يَعلَمُ قَدْرَه مِن الشَّرفِ؛ فليْس ذلك نقْصًا ومَهانةً.
ثمَّ أخبَرَتْه أسماءُ بحَديثٍ لرَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أمَا إنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حدَّثَنا أنَّ اللهَ سُبحانه وتَعالَى سيُظهِرُ في قَبيلةِ ثَقيفٍ كذَّابًا شَديدَ الكذِبِ؛ لأنَّه يَدَّعي النُّبوَّةَ، ومُبيرًا، أي: مُفْسِدًا مُهلِكًا كثيرَ القتلِ للنَّاسِ ظُلمًا، قالت: «فأمَّا الكذَّابُ فَرأَيناه»، تعني المختارَ الثَّقفِيَّ؛ فإنَّه تَنبَّأَ وتَبِعَه ناسٌ كَثيرٌ حتَّى أهْلَكَه اللهُ تَعالَى، «وأمَّا الْمُبيرُ فلا إخالُكَ»، أي: فَلا أَظنُّكَ يا حَجَّاجُ إلَّا ذلك المُبِيرَ.
فأخبَرَ أبو نَوفلٍ: أنَّ الحَجَّاجَ قام مِن عِندها ولم يَرُدَّ عليها كلامَها، بلْ سَكَت عنها، وحاصلُ هذا القولِ أنَّها جَعَلَت الحَجَّاجَ مِصداقًا للمُبيرِ الَّذي أخبَرَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بظُهورِه مِن ثَقيفٍ، وكان الحَجَّاجُ مِن ثَقيفٍ، وكان مَعروفًا بسَفكِ الدِّماءِ.
وفي الحديثِ: الثَّناءُ على الموتى بِجَميلِ صِفاتِهمُ المعروفةِ.
وفيه: مَنْقبةٌ عظيمةٌ لِابنِ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما لِقولِه الحقَّ في الملَأِ، وعدَمِ اكتراثِه بِالحجَّاجِ.
وفيه: فضْلُ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رَضيَ اللهُ عنهما.
وفيه: بَيانُ مَعْلَمٍ مِن أعلامِ النُّبوَّةِ ومُعجِزةٍ ظاهرةٍ؛ حيث أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنَّ في ثَقيفَ سيَكونُ كذَّابٌ ومُبِيرٌ، فوَقَع كما أخبَرَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ.
وفيه: بَيانُ فَضلِ ومَنقبةِ عَبدِ اللهِ بنِ الزُّبيرِ رَضيَ اللهُ عنهما.