باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من المشركين بمكة 1
بطاقات دعوية
عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى قال: سل ابن عباس عن هاتين الآيتين ما أمرهما: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله} [33]، {ومن يقتل مؤمنا متعمدا}؟ [النساء: 93] فسألت ابن عباس؟ فقال:
لما أنزلت التي في {الفرقان}؛ قال مشركو أهل مكة: فقد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلها آخر، وقد أتينا الفواحش، فأنزل الله: {إلا من تاب وآمن} الآية، فهذه لأولئك، وأما التي في {النساء}؛ الرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه، ثم قتل؛ فجزاؤه جهنم خالدا فيها.
فذكرته لمجاهد، فقال: إلا من ندم.
(وفي رواية: آية اختلف فيها أهل الكوفة، فرحلت فيها إلى ابن عباس، فسألته عنها؟ فقال: نزلت هذه الآية: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم} هي آخر ما نزل، وما نسخها شيء 5/ 182. وفي أخرى: عنه عن قوله تعالى: {فجزاؤه جهنم}؛ قال: لا توبة له. وعن قوله جل ذكره: {لا يدعون مع الله إلها آخر} قال: كانت هذه في الجاهلية. وفي أخرى: نزلت في أهل الشرك. وفي أخرى: هذه مكية نسختها آية مدنية التي في {سورة النساء} 6/ 15) (34).
حرَّمَ اللهُ سُبحانَه سَفْكَ الدِّماءِ المَعْصومةِ بغَيرِ حقٍّ، وتَوعَّدَ مَن سفَكَها عَمدًا بالعَذابِ الأليمِ، واللهُ عزَّ وجلَّ حَكَمٌ عدَلٌ، لا تَضيعُ عندَه الحُقوقُ.
وفي هذا الحَديثِ يُخبِرُ التَّابِعيُّ سَعيدُ بنُ جُبَيرٍ أنَّ الصَّحابيَّ عبدَ الرَّحمَنِ بنَ أبْزَى رَضيَ اللهُ عنه أمَرَه أنْ يَسأَلَ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما عن هاتَينِ الآيَتَينِ، وهما قولُ اللهِ تعالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ} [الأنعام: 151]، هكذا ذُكِرتْ في تِلك الرِّوايةِ، والصَّوابُ: أنَّ مُرادَه قولُ اللهِ تعالَى: {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] على ما سيأتي في الحديثِ، وهو ما عليه أكثرُ الرِّواياتِ، والمعنَى: أنَّ مِن صِفاتِ عِبادِ الرَّحمنِ أنَّهم لا يَقتُلون النَّفْسَ الَّتي حرَّم اللهُ قَتلَها بأنْ عصَمَها بالإسْلامِ، إلَّا بالحقِّ الَّذي يُبيحُ قَتْلَها، شَرعًا كرِدَّةٍ، أو قِصاصٍ، أو زِنًا يوجِبُ الرَّجمَ، وقولُه: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، أي: ومَن يَقتُلُ مؤمِنًا مُتعمِّدًا قَتْلَه؛ فجَزاؤُه الَّذي يَستَحِقُّه بسبَبِ هذه الجِنايةِ الكَبيرةِ {جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}، أي: باقيًا فيها مدَّةً طَويلةً، لا يَعلَمُ مِقْدارَها إلَّا اللهُ، {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ} بسبَبِ ما ارْتَكَبَه مِن مُنكَرٍ، {وَلَعَنَهُ}، أي: طرَدَه مِن رَحمَتِه، وأعَدَّ له مِن وَراءِ ذلك كلِّه عَذابًا عَظيمًا يومَ القيامةِ، والمُرادُ: ما أمرُ هاتَينِ الآيَتَينِ؟ فإحداهما قدْ دلَّت على العفْوِ عندَ التَّوبةِ، والثَّانيةُ على وُجوبِ الجزاءِ مُطلَقًا، فما وَجهُ التَّوْفيقِ بيْنَهما؟
وقد أجابَه ابنُ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما: أنَّه لمَّا أُنزِلَتِ الآيةُ الَّتي في سُورةِ الفُرْقانِ، وهي قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان: 68، 69]، قال مُشرِكو أهلِ مكَّةَ: فقدْ قتَلْنا النَّفْسَ الَّتي حرَّم اللهُ، ودَعَوْنا معَ اللهِ إلَهًا آخَرَ، وقدْ أتَيْنا الفَواحِشَ؛ فما يُغْني عنَّا الإسْلامُ وقدْ فعَلْنا ذلك كلَّه؟! فأنزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]، فهذه لأولئك الكفَّارِ.
وأمَّا الآيةُ الَّتي في سُورةِ النِّساءِ -يَعني قولَه تعالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]- ففي الرَّجلِ المُسلِمِ إذا عرَف الإسْلامَ وشَرائعَه، ثمَّ قتَلَ؛ فجَزاؤُه جَهنَّمُ خالدًا فيها. قال عبدُ الرَّحمنِ بنُ أبْزَى: فذكَرْتُ قولَ ابنِ عبَّاسٍ لمُجاهدِ بنِ جَبرٍ فقال: إلَّا مَن نَدِمَ، يَعني: مَن تاب؛ فإنَّه يُسْتَثْنى منَ الوَعيدِ.
وقدْ ذهَب أهلُ السُّنَّةِ إلى أنَّ تَوْبةَ قاتِلِ المُسلِمِ عَمدًا مَقْبولةٌ؛ لقولِ اللهِ تعالَى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه: 82]، وقولِه تعالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]، وأمَّا ما رُويَ عنِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما فهو تَشْديدٌ ومُبالَغةٌ في الزَّجرِ عنِ القَتلِ. وقيلَ: إنَّه وَعيدٌ لمَن قتَل مؤمِنًا مُستحِلًّا لقَتلِه بسبَبِ إيمانِه، ومَنِ استحَلَّ قَتْلَ أهلِ الإيمانِ لإيمانِهم، كان كافِرًا مُخلَّدًا في النَّارِ.
وفي الحَديثِ: أنَّ ما فعَلَه المُشرِكونَ بالمُسلِمينَ منَ القَتلِ، والتَّعْذيبِ، وغيرِ ذلك يَسقُطُ عنهم بالإسْلامِ؛ إذِ الإسْلامُ يَمْحو ما قبلَه.