باب ما يرجى فيه الشهادة2

سنن ابن ماجه

باب ما يرجى فيه الشهادة2

حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، حدثنا عبد العزيز ابن المختار، حدثنا سهيل عن أبيه
عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما تقولون في الشهيد فيكم؟ " قالوا: القتل في سبيل الله، قال: "إن شهداء أمتي إذا لقليل، من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، والمبطون شهيد، والمطعون شهيد".
قال سهيل: وأخبرني عبيد الله بن مقسم، عن أبي صالح، وزاد فيه: "والغرق شهيد"

الشَّهادةُ في سَبيلِ اللهِ تعالَى مَنزِلةٌ عظيمةٌ، ومَرتَبةٌ جليلةٌ، أَجْرُهَا عظيمٌ، وثوابُها كبيرٌ، وأنواعُ الشَّهادةِ كَثيرةٌ مُتَعَدِّدَةٌ؛ أَشْرَفُهَا القَتْلُ في سبيلِ اللهِ تعالى.
وفي هذا الحديثِ يَسألُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ الصَّحابةَ رَضيَ اللهُ عنهم معلِّمًا لهم، فيقولُ: «ما تَعدُّونَ الشَّهيدَ فيكُم؟»، أي: مَن تَظنُّون أنَّه شهيدٌ وتَحتسِبونه عندَ اللهِ مِنَ الشُّهداءِ؟ فقال الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم: «يا رسولَ اللهِ، مَنْ قُتِلَ في سبيلِ اللهِ فَهوَ شَهيدٌ»، أي: إنَّ الشَّهيدَ عِندنا -يا رسولَ اللهِ- هو مَنْ يُقتَلُ في أرضِ المعركةِ وهو يُحارِبُ في سبيلِ اللهِ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «إنَّ شُهَداءَ أمَّتي إذنْ لقليلٌ»، أي: لو كان الشَّهيدُ فقط هو مَنْ يَموتُ في أرضِ المعارِكِ وهو يُحارِبُ في سبيلِ اللهِ، فشهداءُ المسلِمين إذنْ لقليلٌ، فسَألَه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم: «فمَنْ هُمْ يا رسولَ اللهِ؟» أي: فَمَنْ هُمُ الَّذين يُعَدُّونَ شُهداءَ غَيْرَ مَنْ يُقتَلُ في سبيلِ اللهِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن قُتِلَ في سبيلِ اللهِ فَهوَ شَهيدٌ» أي: مَنْ قُتِلَ في المعارِكِ وهو يُقاتِلُ في سبيلِ اللهِ، فهو مِنَ الشُّهداءِ، «ومَنْ ماتَ في سبيلِ اللهِ فَهُوَ شَهِيدٌ»، أي: وَمَنْ مات في أيِّ وَجهٍ مِن وُجوهِ طاعةِ اللهِ وهو عاقدٌ نِيَّتَه على أنَّه يُجاهِدُ في سبيلِ اللهِ، فهو مِنَ الشُّهداءِ، وسبيلُ اللهِ واسِعٌ يَشمَلُ أعمالًا كثيرةً مِنَ الخيرِ الَّذي يُبْتَغَى فيه وجهُ اللهِ.
ثمَّ ذكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَنْ مات بمرضِ الطَّاعونِ فهو مِنَ الشُّهداءِ، والطَّاعونُ هُو قُروحٌ تَخرُجُ في الجَسَدِ، فتَكونُ في المَرافقِ، أوِ الآباطِ، أوِ الأيدي، وسائرِ البَدَنِ، ويَكونُ معه وَرَمٌ وألَمٌ شَديدٌ، وقيلَ: إنَّ الطَّاعونَ اسمٌ لكُلِّ وَباءٍ عامٍّ يَنتَشِرُ بسُرعةٍ، وقدْ سُمِّيَ طاعونًا لِسُرعةِ قَتْلِه.
ثمَّ ذكَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّ مَنْ مات بمرَضٍ في بَطنِهِ -كالاستسقاءِ والإسهالِ ونحوِهِمَا- فهو مِنَ الشُّهداءِ. وفي رِوايةٍ: «ومَن غَرِقَ فَهو شَهِيدٌ»، وعندَ البُخاريِّ: «صاحِبُ الهَدْمِ»، وهو الَّذي ماتَ تَحْتَ الهَدْمِ، والهَدْمُ اسمٌ لِما يَقَعُ، كالجِدارِ ونحْوِه.
وهذه الأنواعُ وغيرُها ممَّا ذُكِر في السُّنَّةِ النَّبويَّةِ كلُّها مَيْتاتٌ فيها شِدَّةُ تَفضُّلِ اللهِ على أُمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأنْ جَعَلَها تَمحيصًا لِذُنوِبهم، وزِيادةً في أُجورِهم، يُبلِّغُهم بها مَراتبَ الشُّهداءِ.
ويَتحصَّلُ مِن ذلك أنَّ الشُّهداءَ قِسمانِ: شَهيدُ الدُّنيا، وشَهيدُ الآخرةِ، فشَهيدُ الدُّنيا هو مَن يُقتَلُ في حرْبِ الكفَّارِ مُقبِلًا غيرَ مُدْبرٍ مُخلِصًا، والَّذي حُكمُه ألَّا يُغَسَّلَ، ولا يُصَلَّى عليه، وشَهيدُ الآخِرةِ هو مَن يُعطَى مِن جِنسِ أجْرِ الشُّهداءِ، ولا تَجري عليه أحكامُهم في الدُّنيا، فيُغسَّلون ويُكفَّنون ويُصلَّى عليهم.