باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء
حدثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن أبي الزبير، عن طاوس، عن ابن عباس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل، يقول: «اللهم لك الحمد، أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيام السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق وقولك الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق والجنة حق والنار حق والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وأخرت وأسررت وأعلنت، أنت إلهي لا إله إلا أنت»
الصلاة صلة بين العبد وربه، يطيب فيها الذكر والدعاء والثناء على الله عز وجل بما هو أهله، لا سيما صلاة الليل؛ حيث تقل الشواغل، ويخلو العبد بربه، فتصفو النفوس، وتخشع القلوب
وهذا الحديث قد اشتمل على دعاء من الأدعية الجوامع التي كان يدعو بها النبي صلى الله عليه وسلم إذا استيقظ في الليل وأراد أن يتهجد، والتهجد هو التيقظ والسهر بعد نومة من الليل، ولما كان القائم يصلي بالليل متيقظا ساهرا، سميت الصلاة صلاة التهجد، والمصلي متهجدا، فكان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم لك الحمد أنت قيم السموات والأرض ومن فيهن»، والحمد هو: الثناء على الله بالكمالات على وجه التعظيم، والقيم معناه: القائم بأمور الخلق، ومدبرهم، ومدبر العالم في جميع أحواله، والمعنى: الحمد والثناء كله لك يا رب؛ لأنك أنت الذي تقوم بحفظ المخلوقات، وتراعيها، وتؤتي كل شيء ما به قوامه، وما به ينتفع، وغيرها من النعم التي يشمل بها الله مخلوقاته
«ولك الحمد لك ملك السموات والأرض ومن فيهن»؛ فأنت سبحانك الخالق المتصرف تصرفا تاما، لا شريك لك، ولا منازع في ملكك
«ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن» يعني: أن كل شيء في السموات والأرض استنار بنوره سبحانه، وبه تعالى يهتدي من فيهما، فله الحمد على ذلك
«أنت الحق»؛ فالحق اسم من أسمائه تعالى، وصفة من صفاته، فهو الحق في ذاته وصفاته؛ فهو كامل الصفات والنعوت، وأحكامه وأفعاله وأخباره كلها حق
«ووعدك الحق»، يعني: لا تخلف الميعاد، وتجزي الذين أساؤوا بما عملوا، إلا ما تتجاوز عنه، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى. «وقولك الحق»، أي: قولك الصدق والعدل، وكل شيء ينسب إليك بحق فهو حق؛ فلقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، وفي هذا إقرار بالبعث بعد الموت، والإقرار بالجنة والنار، والإقرار بالأنبياء عليهم السلام
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد الثناء على ربه ومولاه، معترفا بعبوديته لخالقه عز وجل: «اللهم لك أسلمت، وبك آمنت»، يعني: لك انقدت وخضعت، وصدقت، وأيقنت بك وبكل ما أخبرت به، وأمرت ونهيت، «وإليك أنبت» ورجعت، والإنابة الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة. «وإليك حاكمت»، ورفعت أمري إليك، وجعلتك قاضيا بيني وبين من يخالفني فيما أرسلتني به. «وبك خاصمت» بما آتيتني من البراهين والحجج أجادل الكفار وأخاصمهم
ثم توجه إلى ربه طالبا منه المغفرة، فقال: «فاغفر لي ما قدمت» قبل هذا الوقت من الذنوب، «وما أخرت» عنه من التقصير في العبادة، واغفر لي ما أخفيت من الذنوب، حتى ما خطر بالبال، وما أعلنت وجاهرت به من الأقوال والأفعال
وسؤاله صلى الله عليه وسلم المغفرة مع كونه مغفورا له إما على سبيل التواضع والهضم لنفسه؛ إجلالا وتعظيما لربه، أو على سبيل التعليم لأمته؛ لتقتدي به
ثم تابع صلى الله عليه وسلم الثناء على ربه بقوله: أنت المقدم لما تشاء، وأنت المؤخر لما تشاء، فلا شيء يتقدم أو يتأخر إلا بإرادتك، لا إله إلا أنت؛ فلا معبود بحق إلا أنت الواحد الأحد الصمد، ولا إله غيرك. ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهي: كلمة استسلام وتفويض لله تعالى، واعتراف بالإذعان له، وأن العبد لا يملك شيئا من الأمر؛ فلا حيلة لأحد، ولا تحول لأحد، ولا حركة لأحد عن معصية الله تعالى، إلا بمعونة الله سبحانه، ولا قوة لأحد على إقامة طاعة الله تعالى والثبات عليها إلا بتوفيق الله عز وجل
وفي الحديث: تعريف النبي صلى الله عليه وسلم بعظمة الله سبحانه وقدرته
وفيه: مواظبته صلى الله عليه وسلم على الذكر، والدعاء، والثناء على ربه، والاعتراف له بحقوقه، والإقرار بصدق وعده ووعيده
وفيه: تقديم الثناء على المسألة عند كل مطلوب
وفيه: الإيمان بصفات الله الكاملة التي لا يستحقها غيره