باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع

بطاقات دعوية

باب ما يكره من التعمق والتنازع في العلم والغلو في الدين والبدع

عن إبراهيم التيمي: حدثني أبي قال: خطبنا علي رضي الله عنه على منبر من آجر، وعليه سيف فيه صحيفة معلقة، فقال: والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله، وما في هذه الصحيفة، فنشرها، فإذا فيها [أشياء من الجراحات و 8/ 10] أسنان الإبل، وإذا فيها: "المدينة حرم من عير (وفي رواية: عائر (13) 2/ 221) إلى كذا (وفي رواية: ثور)، فمن أحدث فيها حدثا (14) [أو آوى محدثا 8/ 10]، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه [يوم القيامة] صرفا (15)، ولا عدلا"، وإذا فيه:
"ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، فمن أخفر مسلما، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه [يوم القيامة] صرفا، ولا عدلا"، وإذا فيها:
"من والى قوما بغير إذن مواليه، فعليه لعنة الله، والملائكة، والناس أجمعين، لا يقبل الله منه [يوم القيامة] صرفا، ولا عدلا".
[قال أبو عبد الله: (عدل): فداء].
(ومن طريق أبي جحيفة قال: سألت عليا رضي الله عنه: هل عندكم شيء ما ليس في القرآن؟ وقال [ابن عيينة 8/ 47] مرة: ما ليس عند الناس؟ فقال:
والذي فلق الحب، وبرأ النسمة؛ ما عندنا إلا ما في القرآن، إلا فهما يعطى رجل [مسلم 1/ 36] في كتابه، وما في [هذه] الصحيفة، قلت: وما في [هذه] الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر 8/ 45).


أُرْسِلَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ للناسِ جَميعًا، عَرَبِهم وعَجَمِهم، أبيضِهِم وأسوَدِهم، ولم يَخُصَّ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحدًا بأحكامِ الشَّريعةِ؛ قال تعالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67].
وفي هذا الحَديثِ يَذكُرُ علِيُّ بنُ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه أنَّه ليس عِندَه شَيءٌ مِن أحكامِ دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ إلَّا كِتابُ اللهِ، وصَحيفةٌ مَكتوبٌ فيها بَعضُ مَسائلِ العِلمِ الَّتي لا يَختصُّ بها عن غَيرِه، بلْ أحكامُها تعُمُّ جَميعَ المسلِمينَ؛ فلمْ يكُنِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لِيَكتُمَ شَيئًا مِن دِينِ اللهِ عنِ النَّاسِ، ويخُصَّ به بَعضَ أهلِه.
ثمَّ أخبَرَ عن بَعضِ ما كان في هذه الصَّحيفةِ فقال: «المَدِينَةُ حَرَمٌ، ما بيْنَ عَائِرٍ إلى كَذَا»، وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «المدينةُ حرَمٌ ما بيْن عَيرٍ إلى ثَورٍ». فعائرٌ وعَيرٌ اسمانِ لجبَلٍ واحدٍ، وفي الصَّحيحَينِ مِن حَديثِ أبي هُريرةَ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قال: «ما بيْن لابَتَيها حَرامٌ»، واللَّابَتانِ: تَثنيةُ لَابَةٍ، واللَّابَةُ الحَرَّةُ، وهي أرضٌ ذاتُ حِجارةٍ سَوداءَ كأنَّها أُحرِقَت بالنارِ، فالمَدينةُ -زادَها اللهُ تعالَى شَرفًا- بيْن حَرَّتينِ في جانَبيِ الشَّرقِ والغَربِ، والحَرَّةُ الشرقيَّةُ (حَرَّةُ واقمٍ) الآنَ بها قُباءٌ وحِصنُ واقِمٍ، والحرَّةُ الغربيَّةُ هي حَرَّةُ وَبَرةَ، وبها المَسجِدُ المُسمَّى بمَسجِدِ القِبلتَينِ. وحُدودُها مِن جِهةِ الجنوبِ والشَّمالِ: ما بيْن جَبَلَيْ عَيرٍ (عائرٍ) وثَورٍ، فحَدُّ الحرمِ النَّبويِّ ما بيْن جَبلِ عَيْرٍ جَنوبًا، ويَبعُدُ عن المسجدِ النَّبويِّ (8,5 كم)، وجَبلِ ثَورٍ شَمالًا، ويَبعُدُ عن المسجدِ النبويِّ (8 كم). وقد قامت لَجنةٌ رَسميَّةٌ في المَملكةِ العَربيَّةِ السُّعوديةِ بتَحديدِ حرَمِ المدينةِ، وجَعَلَت أمانةُ المدينةِ المنوَّرةِ عَلاماتٍ مِعماريةً على شَكْلِ أقواسِ المسجِدِ النَّبويِّ في أماكنَ عِدَّةٍ تُبيِّنُ هذه الحدودَ.
ومعْنى تَحريمِ المدينةِ: أنَّه يَأمَنُ فيها كلُّ شَيءٍ على نفْسِه، حتَّى الحيوانُ فلا يُصادُ، وحتَّى الشَّجرُ فلا يُقطَعُ، إلَّا ما يَزرَعُه الآدميُّ بنفْسِه فمَشروعٌ له قطْعُه والأكْلُ منه، وأيضًا يَحرُمُ صَيدُ المدينةِ كما في حرَمِ مكَّةَ، لكنْ لا جَزاءَ على مَن صادَ بها؛ لأنَّ حرَمَ المدينةِ ليسَ مَحلًّا للنُّسكِ بخِلافِ حرَمِ مكَّةَ.
وذَكَر عِقابَ مَن أحدَث فيها حَدثًا أو آوَى مُحدِثًا، ومعنى الإحداثِ في المدينةِ: أنْ يَعمَلَ فيها إنسانٌ عمَلًا يُخالِفُ دِينَ اللهِ، أو جُرمًا، أو ظُلمًا، أو حَدًّا، ومعْنى إيواءِ المُحدِثِ: نُصرةُ الجاني، وإجارتُه مِن خَصْمِه، والحَيلولةُ بيْنه وبيْن أنْ يُقتَصَّ منه. ويجوزُ فتْحُ الدالِ مِن «مُحدَثًا»، ومعناه الأمْرُ المبتَدَعُ نفْسُه، فإذا رَضِيَ بالبدعةِ، وأقرَّ فاعِلَها ولم يُنكِرْها عليه؛ فقدْ آواهُ.
فمَن فَعَلَ ذلك فقدِ استحقَّ لَعْنَةَ اللهِ -وهو الطَّردُ والإبعادُ مِن رَحمتِه- والملائكةِ والنَّاسِ أجمعينَ، وهو دُعاؤهم عليه بالبُعدِ عن رَحمةِ اللهِ تعالَى، وهذا وَعيدٌ شَديدٌ، لكنْ يُرادُ به هنا العذابُ الَّذي يَستحِقُّه على ذَنْبِه، والطَّردُ عنِ الجنَّةِ أوَّلَ الأمرِ، وليستْ هي كلَعنةِ الكفَّارِ الَّذين يُبعَدونَ مِن رَحمةِ اللهِ تعالَى كلَّ الإبعادِ. وكذا لا يَقبَلُ اللهُ منه ما يَصرِفُ به العذابَ عن نفْسِه، وما يَفتدِي به منْه.
وأخبَرَ أنَّ في الصَّحيفةِ أيضًا: أنَّ ذِمَّةَ المُسلِمينَ واحدةٌ مُتكافئةٌ، رِجالًا ونِساءً، أحرارًا وعَبيدًا، لا فرْقَ بيْنهم، فمَن أجارَه أحدُهم وجَب على المُسلِمينَ جَميعًا أنْ يُجِيروه ويُؤمِّنوه، فمَن اعتدَى ونقَضَ عَهْدًا عاهَده مُسلِمٌ أو أمانًا أعطاهُ؛ فقدِ استحَقَّ العقوبةَ باللَّعنِ، وعدمِ القَبولِ، على ما سَبَقَ بيانُه.
وفيها أيضًا: أنَّ مَن أعْطى وَلاءَه لغَيرِ مَواليهِ الَّذين أعتَقَوه مِن الرِّقِّ، فقدِ استحَقَّ العُقوبةَ باللَّعنِ، وعدَمِ القَبولِ أيضًا؛ لأنَّ لُحمةَ الولاءِ كلُحمةِ النَّسَبِ، فلا يَحِلُّ تَجاوزُها. وقولُه: «بغَيرِ إذنِ مَواليهِ» ظاهرُه أنَّه شَرْطٌ، وليس شَرْطًا؛ لأنَّه لا يَجوزُ له إذا أَذِنوا أنْ يُوالِيَ غَيرَهم، وإنَّما هو بمعْنى التَّوكيدِ لتَحريمِه، والتَّنبيهِ على بُطلانِه، والإرشادِ إلى السَّببِ فيه؛ لأنَّه إذا استأذَنَ أولياءَهُ في مُوالاةِ غيرِهم مَنَعُوه، فيَمتنِعُ، والمعْنى: إنْ سَوَّلَت له نفْسُه ذلك فلْيَستأذِنْهم؛ فإنَّهم يَمنَعونَه.
وقد اختَلَفَت الأحاديثُ في المكتوبِ في هذه الصَّحيفةِ زِيادةً ونُقصانًا، فمنْها ما ذُكِرَ فيه: الدِّيةُ، وفِكاكُ الأسيرِ، وأنَّه لا يُقتَلُ مُسلمٌ بكافرٍ، ولعَنَ اللهُ مَن لَعَنَ والدَه، وغيرُ ذلك؛ والجمْعُ بيْن هذه الأحاديثِ أنَّ الصَّحيفةَ كانت واحدةً، وكان جَميعُ ذلك مَكتوبًا فيها، فنَقَلَ كلُّ واحدٍ مِن الرُّواةِ عنه ما حَفِظَه.
وفي الحديثِ: ردٌّ على الشِّيعةِ الَّذين يَزعُمونَ أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه قد اختَصَّه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بأُمورٍ كَثيرةٍ مِن أسرارِ العلمِ، وقَواعدِ الدِّين، وكُنوزِ الشَّريعةِ، وأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ خصَّ أهلَ البيتِ بما لم يُطلِعْ عليه غيرَهم.
وفيه: أنَّ العمَلَ المخالِفَ لشَرْعِ اللهِ في المدينةِ يُعَدُّ مِن الكبائرِ.