باب ما يلزم من أحرم بالحج ثم قدم مكة من الطواف والسعي 1
بطاقات دعوية
عن وبرة قال كنت جالسا عند ابن عمر فجاءه رجل فقال أيصلح لي أن أطوف بالبيت قبل أن آتي الموقف فقال نعم فقال فإن ابن عباس يقول لا تطف بالبيت حتى تأتي الموقف فقال ابن عمر فقد حج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت قبل أن يأتي الموقف فبقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحق أن تأخذ أو بقول ابن عباس إن كنت صادقا. وفي رواية: رأينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج وطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة. (م 4/ 53)
أَمرُ الحجِّ أمرٌ عَظيمٌ، وقدْ أُخِذَت أعْمالُه بتَفاصيلِها مِن حَجَّةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، ولذلك حرَصَ التَّابِعونَ رحمَهمُ اللهُ على استِقْصاءِ كلِّ ما ورَدَ وأُسنِدَ عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ من أصْحابِه الكِرامِ رَضيَ اللهُ عنهم.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي التَّابِعيُّ وَبَرةُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ الكوفيُّ أنَّ رجُلًا سَأل عبدَ اللهِ بنَ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهُما: هَل يصِحُّ أنْ أَطُوفَ بالْبَيتِ بعدَ الإِحْرامِ وقبلَ الوُقوفِ بعَرفةَ والمَواقفِ؟ وقولُه: «وقد أحرَمتُ بالحجِّ»، أي: أفرَدَ الإحْرامَ بالحجِّ، ولم يكنْ مُتمتِّعًا ولا قارِنًا، فسألَه ابنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهُما: وأيُّ شيءٍ يَمنعُكَ مِن أنْ تَبدأَ بالطَّوافِ؟! وهذا دَليلٌ عَلى مُوافَقةِ ابنِ عُمرَ عَلى الطَّوافِ أوَّلًا، فَقالَ الرَّجلُ السَّائلُ: «إنِّي رأيتُ ابنَ فُلانٍ» يقصِدُ عبدَ اللهِ بنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما «يَكرهُهُ»، وفي رِوايةٍ لمسلِمٍ: «فإنَّ ابنَ عبَّاسٍ يقولُ: لا تَطُفْ بالبَيتِ حتَّى تأتيَ المَوقفَ»، فكان رَضيَ اللهُ عنهما يَنهى عن الِابْتداءِ بالطَّوافِ قبلَ قُدومِ عَرَفةَ، «وأنتَ أَحبُّ إلينا مِنه»، يقصِدُ أنَّه يقدِّمُ قولَ ابنِ عُمرَ على قولِ ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهم، مُدَّعيًا أنَّ ابنَ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما قد فَتنَتْه الدُّنيا؛ لأنَّه كان واليًا على البَصرةِ من قِبَلِ ابنِ عمِّه عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، والوِلاياتُ تكونُ محلَّ الخطَرِ والفِتْنةِ، وأمَّا ابنُ عُمَرَ فلم يتوَلَّ شيئًا.
وأمَّا قولُ ابنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما: «وأيُّنا لم تَفتِنْه الدُّنيا» هذا مِن زُهدِه، وتَواضُعِه، وإنْصافِه، وردًّا على طَعنِ الرَّجلِ على ابنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنه، وبَيانًا لفَضلِ عبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عنهما.
ثُمَّ أخبَرَ ابنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عَنهُما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحْرمَ بالحجِّ، وَطافَ بالبَيتِ طوافَ القُدومِ سَبعةَ أشْواطٍ، وسَعى بينَ الصَّفا والمَروةِ، يَعني: أنَّه ابتدَأَ بالطَّوافِ والسَّعيِ قبلَ الخُروجِ إلى مِنًى وعَرفةَ. قيلَ: إنْ كان المحرِمُ مُفرِدًا بالحجِّ وقَعَ طَوافُه هذا للقُدومِ، وإنْ كان مُفرِدًا بالعُمرةِ أو مُتمتِّعًا أو قارِنًا وقَعَ عن طَوافِ العُمرةِ نَواه له أو لغَيرِه، وعلى القارِنِ أنْ يطوفَ طَوافًا آخَرَ للقُدومِ.
والمشهورُ عنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنَّه أحرَمَ قارِنًا لحَجَّةٍ وعُمرةٍ معًا، فكان طوافُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لعُمرتِه، ثُمَّ أُدخِلتِ العُمرةُ في أعْمالِ الحجِّ.
وقال ابنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما للرَّجلِ قاعدةً يتَّبِعُها في طلَبِه للعِلمِ، وهي أنَّ سُنَّةَ اللهِ وسُنَّةَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أَحقُّ وأوْلى في الاتِّباعِ مِن سُنَّةِ فُلانٍ، وقولُه: «إنْ كُنتَ صادِقًا»، مَعناه: إنْ كُنتَ صادِقًا في اتِّباعِكَ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فَلا تَعدِلْ عن فِعلِه.
وَفي الحَديثِ: وَرَعُ الصَّحابةِ عنِ خَوضِ بَعضِهم في أعْراضِ بعضٍ.
وَفيه: عَدمُ القَبولِ بتَزكيةِ النَّفْسِ في مَعرِضِ ازْدِراءِ الآخَرينَ.