باب: مانع زكاة البقر
سنن النسائي
أخبرنا واصل بن عبد الأعلى، عن ابن فضيل، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا وقف لها يوم القيامة بقاع قرقر تطؤه ذات الأظلاف بأظلافها، وتنطحه ذات القرون بقرونها، ليس فيها يومئذ جماء ولا مكسورة القرن». قلنا: يا رسول الله، وماذا حقها؟ قال: " إطراق فحلها، وإعارة دلوها، وحمل عليها في سبيل الله، ولا صاحب مال لا يؤدي حقه، إلا يخيل له يوم القيامة شجاع أقرع يفر منه صاحبه وهو يتبعه يقول له: هذا كنزك الذي كنت تبخل به، فإذا رأى أنه لا بد له منه أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل "
المالُ زِينةُ الحياةِ الدُّنيا، وقدْ بيَّنَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الحُقوقَ الواجبةَ على مَن ملَكَ مالًا وافرًا؛ مِن الزَّكاةِ والصَّدقةِ، وبيَّن ما له مِن الفضْلِ والأجْرِ على ذلك، كما بيَّنَ عُقوبةَ مانعِ هذه الحُقوقِ
وفي هذا الحديثِ يُبيِّنُ لنا النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّ مَن لم يُؤَدِّ زَكاةَ الأنعام الَّتي يَملِكُها، فإنَّها تَأتي يومَ القِيامةِ أعْظَمَ ما كانت عندَ الَّذي مَنَع زَكاتَها؛ لأنَّها قدْ تكونُ عندَه على حالاتٍ؛ مرَّةً هَزيلةً، ومرَّةً سَمينةً، ومرَّةً صَغيرةً، ومرَّةً كَبيرةً، فأخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنَّها تَأتي على أعظَمِ أحوالِها عندَ صاحبِها، فإذا كانت إبلًا أو بقرًا ولا يُؤدِّي زكاتَها وصَدقاتِها، فإنَّها تَطَؤُه بأرجُلِها، وتَنطَحُه بقرُونِها، وتَضرِبُه الإبلُ بأخفافِها، والخُفُّ هو الجزْءُ المرِنُ الَّذي يكونُ في نِهايةِ رِجلِ الجَمَلِ، ويكونُ هذا الرَّجلُ قاعدًا لها رغْمًا عنه «بِقاعٍ قَرْقَرٍ»، والقاعُ: المُستوي الواسعُ مِن الأرض يَعْلوه ماءُ السَّماءِ فيُمسِكُه، والقَرْقَرُ: المُستوي أيضًا مِن الأرضِ الواسعُ، وهذا يدُلُّ على أنَّه يتَّسِعُ لأيِّ عدَدٍ مِن الحيواناتِ، فيَأتي كلُّ ما كان يَملِكُه في هذا المكانِ، فيُعذَّبُ بمالِه الَّذي منَعَ حقَّ اللهِ فيه، وكذلك إذا كانت غنَمًا ولا يُؤدِّي زَكاتَها تَنطَحُه بقُرونِها، وتَطَؤُه «بأظلافِها»، والظِّلْفُ للبقَرِ والغنَمِ والظِّباءِ، وهو المُنشَقُّ مِن القوائمِ، وتَأتي هذه الحيواناتُ بكاملِ قوَّتِها؛ فتَأتي بقُرونِها ليْس فيها «جَمَّاءُ» وهي الشَّاةُ الَّتي لا قَرْنَ لها، ولا مُنكسِرٌ قَرْنُها
وإذا كان المانعُ لحقِّ المالِ في الدُّنيا صاحبَ كَنزٍ -وهو كلُّ شَيءٍ مَجموعٌ بعضُه إلى بعضٍ، في بَطْنِ الأرضِ كان أو على ظَهرِها- ولا يُؤدِّي زَكاتَه؛ يَأتي كَنْزُه هذا فيُمثَّلُ له «شُجاعًا أقرَعَ»، والشُّجاعُ الحيَّةُ الذَّكَرُ، والأقرعُ: الَّذي لا شَعرَ له على رأْسِه؛ لكَثرةِ سُمِّه وطُولِ عُمرِه، أو هو الَّذي ابيضَّ رأْسُه مِن السُّمِّ، فيُعذِّبُ اللهُ بهذا الثُّعبانِ صاحبَ الكَنزِ، فيَتبَعُه فاتِحًا فَمَه، فإذا أتى هذا الثُّعبانُ إلى الشَّخصِ المُعذَّبِ، فرَّ منه وهرَب، فيُنادِي هذا الشُّجاعُ صاحِبَ الكَنزِ: «خُذْ كَنْزَك الَّذي خبَأْتَه؛ فأنا عنه غَنيٌّ»، فإذا رأى الرَّجلُ أنْ لا سَبيلَ لفِرارِه مِن الشُّجاعِ، مدَّ يَدَه وأدخَلَها في فَمِ هذا الثُّعبانِ، «فيَقْضَمُها» الثُّعبانُ، والقضْمُ: الأكلُ والمَضْغُ بشِدَّةٍ وقوَّةٍ «قَضْمَ الفحلِ» وهو الذَّكرُ مِن الإبلِ؛ لقوَّةِ قَضْمِه
ويُخبِرُ عُبيدُ بنُ عُميرٍ أنَّ رجُلًا سَأل رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «ما حقُّ الإبلِ؟»، أي: الحقُّ المَعهودُ المُتعارَفُ عليه بيْن العرَبِ تُجاهَ الفُقراءِ والمَساكينِ -مُواساةً وكَرَمًا-، فأخبَرَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم أنْ تُحلَبَ الإبلُ عندَ وُرودِها الماءَ، ويُعطَى مَن حَضَرَ مِن المساكينِ مِن لَبَنِها؛ ليَشْرَبوا منه. وإنَّما خَصَّ الحلْبَ بمَوضعِ الماءِ؛ ليَكونَ أسهَلَ على المُحتاجِين مِن قصْدِ المَنازلِ، وأرفَقُ بالماشيةِ، ولأنَّه حالةُ كَثرةِ لَبَنِها، «وإعارةُ دَلْوِها» وهو إعطاءُ أوانِيها الَّتي تُحلَبُ فيها أو تَشرَبُ منها للغيرِ؛ ليَستفيدَ منها عندَ الحاجةِ، «وإعارةُ فَحْلِها» وفي روايةٍ لمُسلمٍ: «إطراقُ فَحْلِها»، وهوَ نَزوُهُ على الأُنْثى حتَّى تَحمِلَ، فلا يَأخُذُ عليه أجرًا، «ومَنِيحتُها» والمِنْحةُ: الشَّاةُ أو النَّاقةُ يُعْطِيها صاحِبُها لِرَجُلٍ يَشرَبُ لَبَنَها، ثمَّ يَرُدُّها إذا انقطَعَ اللَّبَنُ، والاسمُ المَنِيحةُ. «وحَمْلٌ عليها في سَبيلِ اللهِ» بأنْ تُعطِيَها لمَن يَركَبُها في الغزْوِ في سَبيلِ نشْرِ دِينِ اللهِ، أو في أيِّ وجهٍ مِن وُجوهِ الخيرِ، وظاهرُ هذه الرِّوايةِ أنَّ هذه الخصالَ واجبةٌ، ولعلَّ هذا الحديثَ خرَجَ على وقتِ الحاجةِ، ووُجوبِ المواساةِ، وحالِ الضَّرورةِ، كما كان في أوَّلِ الإسلامِ، ويكونُ معنى الحديث: أنَّه مهْما تعيَّنَت هذه الحقوقُ ووجَبَت، فلم تُفْعَلْ؛ تَعَلَّقَ بالمُمتنِعِ مِن فِعلِها هذا الوعيدُ الشَّديدُ
وفي الحديثِ: عُقوبةُ مانعِ الزَّكاةِ
وفيه: الأمرُ بزَكاةِ بَهيمةِ الأنعامِ
وفيه: أنَّ العبدَ إذا لم يَشكُرِ النِّعمةَ، ويُؤدِّ حقَّ اللهِ فيها تكونُ نِقمةً ووَبالًا عليه يومَ القِيامةِ
وفيه: ما يدُلُّ على أنَّ اللهَ تعالَى يَبعَثُ الإبلَ والبقرَ والغنَمَ الَّتي مُنِعَتْ زكاتُها بعَينِها؛ ليُعذِّبَ بها مانعَها