باب معيشة أصحاب النبيﷺ5
سنن ابن ماجه
حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام ابن عروة، عن وهب بن كيسان
عن جابر بن عبد الله، قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن ثلاث مئة، نحمل أزوادنا على رقابنا، ففني أزوادنا حتى كان يكون للرجل منا تمرة. فقيل: يا أبا عبد الله، وأين تقع التمرة من الرجل؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فقدناها، وأتينا البحر فإذا نحن بحوت قد قذفه البحر، فأكلنا منه ثمانية عشر يوما (1)
كان أصْحابُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في جِهادٍ دائمٍ؛ فما يَخرُجونَ مِن غَزْوةٍ إلَّا ويَستَعِدُّونَ للَّتي بعْدَها، وتَحَمَّلوا الضُّرَّ والأذى في اللهِ، حتَّى فتَحَ اللهُ عليهمُ البُلدانَ، ودخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ أفْواجًا.
وفي هذا الحَديثِ يَرْوي جابرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بعَثَهم في سَريَّةٍ، وعدَدُهم ثَلاثُ مِئةِ راكبٍ، وجعَلَ أبا عُبَيْدةَ بنَ الجرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه أميرًا عليهم، ليَرصُدوا عِيرَ قُرَيشٍ، أي: ليَنتَظِروا ويُراقِبوا قافلةً مُحمَّلةً بمالِ التِّجارةِ لقُرَيشٍ، وأيضًا لمُحارَبةِ حيٍّ من جُهَيْنةَ، وكانت هذه السَّريَّةُ في العامِ الثَّامِنِ مِن الهِجْرةِ، وقد عُرِفَت بسَريَّةِ سَيفِ البَحرِ.
ويُخبِرُ جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّهم أقاموا بسَّاحِلِ البحْرِ نِصفَ شَهرٍ، ففَنِيَ طَعامُهم، ونزَل بهم جُوعٌ شَديدٌ حتَّى أكَلوا «الخَبَطَ»، وهو ورَقُ السَّلَمِ؛ شَجرٌ مَعروفٌ، أو ما سقَطَ مِن وَرقِ الشَّجرِ بالخَبْطِ والنَّفضِ؛ فسُمِّيَ ذلك الجَيشُ جَيشَ الخَبَطِ مِن أجْلِ هذا.
وبيْنَما همْ كذلك ألْقى إليهمُ البَحرُ دابَّةً مِن السَّمكِ يُقالُ لها: العَنبَرُ، وهو اسمٌ لنَوعٍ منَ الحيتانِ، يُتَّخَذُ مِن جِلدِها الأترَاسُ، وهو ما يُتَّقى به من ضَرَباتِ السَّيفِ، فأكَلوا مِن هذا الحوتِ نِصفَ شَهرٍ، وادَّهَنوا مِن «وَدَكِه»، أي: شَحْمِه، حتَّى رجَعَت أجْسامُهم إلى ما كانت عليه مِنَ القُوَّةِ والسِّمَنِ بعْدَما ضَعُفَت مِن الجوعِ.
ويَصِفُ جابرٌ عِظَمَ الحُوتِ فيُخبِرُ أنَّه بعْدَ أنْ ظهَرَتْ عِظامُ الحوتِ وخلَتْ مِن اللَّحمِ، أخَذَ أبو عُبَيْدةَ رَضيَ اللهُ عنه ضِلَعًا مِن أضْلاعِه، فنصَبَه واقفًا، ثمَّ جاء بأطوَلِ رَجلٍ معَه، وهو قَيسُ بنُ سَعدِ بنِ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنهما، وفي رِوايةٍ: «أخَذَ رَجلًا وبَعيرًا، فمَرَّ تَحتَه راكبًا عليه»، وفي رِوايةِ الصَّحيحَينِ: «فلمَّا قَدِمْنا المَدينةَ، ذَكَرْنا ذلك للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: كُلوا؛ رِزقًا أخرَجَه اللهُ، أطْعِمونا إنْ كان معَكم، فأَتاهُ بَعضُهم، فأكَلَه».
ويَحْكي جابِرٌ رَضيَ اللهُ عنه أنَّ رَجُلًا مِن القَومِ -وهو قَيسُ بنُ سَعدٍ- نحَرَ ثَلاثَ جَزائرَ، وذلك عندَما جاعوا، ثمَّ نحَرَ ثَلاثَ جَزائرَ أُخْرى، ثمَّ نحَرَ ثَلاثَ جَزائرَ أُخْرى، والجَزائرُ جَمعُ جَزورٍ، وهو البَعيرُ ذَكرًا كان أو أُنْثى، وكانتْ تِلك الجِمالُ من دَوابِّهمُ الَّتي كانتْ تَحمِلُهم، ثمَّ إنَّ أبا عُبَيْدةَ رَضيَ اللهُ عنه نَهاهُ عن ذلك؛ لأجْلِ قلَّةِ الظَّهرِ. ولَمَّا رجَعَ قَيسُ بنُ سَعدٍ لأبيهِ سَعدِ بنِ عُبادةَ رَضيَ اللهُ عنهما، حَكَى له أنَّهم جاعُوا ثَلاثَ مرَّاتٍ وهمْ في الجَيشِ، وفي كلِّ مرَّةٍ يقولُ له أبوهُ: «انْحَرْ»، أي: وأطْعِمْهم، ويرُدُّ عليه ابنُه أنْ قدْ نَحَرْنا حتَّى جاءَتِ الرَّابعةُ، وقدْ جاعوا، فنَهاه أبو عُبَيْدةَ رَضيَ اللهُ عنه عن ذلك. قيل: إنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه كان في ذلك الجيشِ، فلمَّا رَأى ذلك طَلَبَ مِن أبي عُبيدةَ أنْ يَنهى قَيسًا عن النَّحْرِ، فعَزَمَ عليه أبو عُبَيدةَ أنْ يَنتهِيَ عن ذلك، فأطاعَه.
وفي الحَديثِ: ما كان عليه الصَّحابةُ رَضيَ اللهُ عنهم مِنَ الجُوعِ، وشِدَّةِ العَيشِ في أوَّلِ الإسلامِ.
وفيه: فَضلُ أبي عُبَيْدةَ بنِ الجرَّاحِ رَضيَ اللهُ عنه، وحِكمَتُه في قِيادةِ الجَيشِ.
وفيه: مَشْروعيَّةُ أكْلِ مَيْتةِ البَحرِ.