باب من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه
بطاقات دعوية
عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان إذا خرج إلى مكة كان له حمار يتروح عليه إذا مل ركوب الراحلة وعمامة يشد بها رأسه فبينا هو يوما على ذلك الحمار إذ مر به أعرابي فقال ألست ابن فلان ابن فلان قال بلى فأعطاه الحمار وقال اركب هذا والعمامة قال اشدد بها رأسك فقال له بعض أصحابه غفر الله لك أعطيت هذا الأعرابي حمارا كنت تروح عليه وعمامة كنت تشد بها رأسك فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي وإن أباه كان صديقا لعمر - رضي الله عنهم -. (م 8/ 6)
إنَّ بِرَّ الوالدينِ مِن أعظَمِ الأعمالِ الَّتي أوْصى اللهُ سُبحانه بها، وقَرَنها بالوصيَّةِ بتَوحيدِه، ومِن جَمالِ الإسلامِ أنْ جَعَل هذا البِرَّ لا يَقتصِرُ نفْعُه عليهما فقطْ؛ بلْ يَتعدَّى لِأصدقائهِما وأحِبَّائهِما بعْدَ مَوتِهما
وفي هذا الحديثِ يَرْوي التَّابعيُّ عبدُ اللهِ بنُ دِينارٍ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما كانَ إذا خرَجَ مُسافرًا مِن المدينةِ إلى مكَّةَ، كان له حمارٌ «يَتَروَّحُ عَلَيْه»، أي: يَستريحُ عَلَيْه إذا «مَلَّ»، أي: ضَجِرَ مِن رُكوبِ «الرَّاحلةِ» وهي المرْكَبُ مِنَ الإبلِ، ذكرًا كان أو أُنثى، وكان له أيضًا عِمامةٌ يُغطِّي بها رأْسَه، فبيْنما هو يومًا يَركَبُ على ذلك الحِمارِ؛ إذ مَرَّ به رجُلٌ أعرابيٌّ -وهو الَّذي يَسكُنُ الصَّحراءَ مِن العربِ-، فسَأل ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما الرَّجلَ الأعرابيَّ: «ألسْتَ فلانَ بنَ فلانٍ؟» يَقصِدُ به رجُلًا كان يَعرِفُه، فَقالَ الأعرابيُّ: «بَلى»، فلمَّا عَرَفه ابنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما أهْداه الحِمارَ لِيَركَبَه، وَأعطاهُ العِمامةَ، وأمَرَه أنْ يَتعمَّمَ بها، فأنكَرَ بعضُ أصحابِ ابنِ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما عليه ما فَعَل، وكيْف أهْدى الرَّجلُ أشياءَ كان يَحتاجُها ابنُ عُمرَ ويَستعمِلُها، وفي رِوايةٍ أُخرى عندَ مُسْلمٍ قالوا له: «إنَّهم الأعرابُ، وإنَّهم يَرْضَون باليسيرِ» أي: كان يَكفيهِ أقلُّ ممَّا أعْطَيْتَه، وإنَّ ما أعْطَيْتَه كثيرٌ، فأخبَرَهم ابنُ عُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّه سَمِع رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يقولُ: «إنَّ مِن أبرِّ البرِّ» يعني: أعظَمُ أنواعِ البِرِّ وأفضلِه وأكثَرُه أجْرًا «صلَةَ الرَّجلِ» أي: إعطاءَ الرَّجلِ جائزةً وعَطيَّةً لأهلِ وُدِّ أبيهِ، وهُم أهلُ مَحبَّةِ أبيهِ وصَداقتِه، بعْدَ أنْ «يُولِّيَ» وهو كِنايةٌ عن الموتِ، وإنَّما كانت الوصيَّةُ بأولياءِ الوالدِ بعْدَ مَوتِه أبَرَّ؛ لأنَّ ذلك يُؤدِّي إلى كَسبِ الدُّعاءِ له وبَقاءِ المودَّةِ، وفيه إشارةٌ إلى تَأكيدِ حقِّ الأبِ
ثمَّ أخبَرَهم عبدُ اللهِ بنُ عُمرَ رَضيَ اللهُ عنهما أنَّ أبا هذا الرَّجُلِ الأعرابيِّ كان صَديقًا لِعمرَ بنِ الخطَّابِ رَضيَ اللهُ عنه، فَلِذا أعطاهُ صِلةً وهَديَّةً؛ عَملًا بحَديثِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ
وفي الحديثِ: دَليلٌ على امتثالِ الصِّحابةِ، ورغْبتِهم في الخيرِ وَمسارعتِهم إليه
وفيه: سَعةُ رَحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، حيثُ إنَّ البِرَّ بابُه واسعٌ لا يختصُّ بِالوالدَيْنِ فقط؛ بل حتَّى أصدقائِهما إذا أحسنْتَ إليهم؛ فَإنَّما بَرِرْتَ وَالدَيْكَ فَتثابُ ثوابَ البارِّ بِوالدَيْهِ
وفيه: الحثُّ على إكرامِ أصدقاءِ الوالدَيْنِ