باب من أنكر ولده
سنن ابن ماجه
حدثنا محمد بن يحيى، حدثنا عبد العزيز بن عبد الله، حدثنا سليمان بن بلال، عن يحيى بن سعيد، عن عمرو بن شعيب، عن أبيهعن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كفر بامرئ ادعاء نسب لا يعرفه أو جحده، وإن دق" (1).
حَرَص الشَّرعُ الحَكيمُ على حِفْظِ الأنسابِ والأعراضِ؛ لأنَّ اختِلاطَ الأنسابِ فيه ضَياعٌ للحقوقِ، ودُخولُ أدْعِيَاءَ في نسَبٍ لَيْسوا منه، وهو كَذِبٌ صريحٌ، وفيه إثمٌ عظيمٌ.
وفي هذا الحديثِ يقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ علَيه وسلَّم: "كُفرٌ بامْرِئٍ ادِّعاءُ نسَبٍ لا يَعرِفُه أو جحَدَه وإن دَقَّ"، أي: إنَّ تعمُّدَ الانتِسابِ لغَيرِ الأبِ مع العِلمِ بذلك ذنبٌ عظيمٌ يَقتَضي الكُفرَ، والانتِفاءُ مِن النَّسبِ الصَّحيحِ المعلومِ صِحَّتُه كفرٌ أيضًا؛ فمَن استَحلَّ فِعلَ هذا معَ عِلمِه فقدْ كفَر الكُفرَ الأكبرَ المخرج مِن الملَّةِ، وأمَّا مَن فَعَله غيرَ مُستحِلٍّ له؛ فهو مَحمولٌ على كُفرِ النِّعمةِ والإحسانِ وحَقِّ اللهِ تعالى وحقِّ أبيه.
وهذا الانتسابُ أو الانتفاءُ مِنه فيه خطَرٌ عظيمٌ؛ لِتَغييرِه نسَبَه وخَلْطِه في الأنسابِ، وهذا يتَرتَّبُ عليه فَسادٌ كثيرٌ؛ مِن حِرْمانِ وارثٍ، وتوريثِ مَن ليس بِوارِثٍ، وتحريمِ أبضاعٍ مُباحةٍ، وإباحةِ أبضاعٍ مُحرَّمةٍ، والطَّعنِ في نسَبِه، وازدراءٍ لأصولِه الَّتي تَولَّد منها، وعقوقٍ لها، وضياعِ الولاءِ والعَقْلِ, مع ما فيه مِن قَطيعةِ الرَّحِمِ؛ قيل: ولا يَدخُلُ في مَعْنى الخبَرِ ولا الوعيدِ الذي فيه مَن اشتَهَر بالنِّسبةِ إلى غيرِ أبيه، كالمِقْدادِ بنِ الأسوَدِ، وإنَّما المرادُ به مَن تَحوَّل عن نسَبِه لأبيه إلى غيرِ أبيه، عالِمًا عامِدًا مُختارًا، وكانوا في الجاهليَّةِ لا يَستنكِرون أن يتَبنَّى الرَّجلُ ولَدَ غيرِه، ويَصيرَ الولَدُ يُنسَبُ إلى الَّذي تَبنَّاه، حتَّى نزَل قولُه تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} [الأحزاب: 4]، فنُسِب كلٌّ مِنهم إلى أبيه الحقيقيِّ، لكنْ بَقِي بعضُهم مَشهورًا بمَن تبنَّاه، فيُذكَرُ به لِقَصدِ التَّعريفِ فقط، لا لقَصدِ النَّسبِ الحقيقيِّ، كالمقدادِ بنِ الأسودِ رَضِي اللهُ عَنه، وليس الأسوَدُ أباه، بل تَبنَّاه، واسمُ أبيه الحَقيقيِّ عمرُو بنُ ثَعلبةَ.